المنشور

الثورة الحضارية والإنسانية


باستثناء حوادث الأيام الأولى التي راح ضحيتها حوالي 300 قتيل وبضع مئات من الجرحى، نتيجة لمحاولات الأجهزة الأمنية والحزب الوطني الحاكم إحباط الحركة الاحتجاجية الشعبية، ووأدها في مهدها قبل أن تتمدد إلى بقية المناطق والأقاليم وتتحول إلى حالة شعبية ثورية مستعصية على كافة الحلول الأمنية التي احترفتها الدولة البوليسية، دون سواها من الحلول، في تعاطيها الدائم مع الإفرازات الاجتماعية المختلفة لحالات الاختناق الطافح بالفساد والتخلف الإداري الكلي المريع – باستثناء تلك الحوادث المحزنة وأشهرها غزوة الجمل لميدان التحرير، فإن الثورة الشعبية المصرية قد دخلت التاريخ العالمي كإحدى أعظم الثورات التي شهدها العالم في العصر الحديث، وأكثرها رقياً وحضارةً .
 
إلى ما قبل الحركة الشعبية التي أطلق شرارتها الأولى الشباب المصري الجديد المتعلم، كان رئيس الولايات المتحدة الأمريكية باراك أوباما يعتمد المقاربة التدرجية في دعم التحولات الديمقراطية في المنطقة العربية، وذلك تأثراً بالحصاد المر الذي لقيته سياسة الرئيس السابق جورج بوش في نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط والتي اعتمدت أسلوب العلاج بالصدمة، ومن نتائجها التي صدمت واشنطن فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية التي أجريت في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 2006 .
 
ولكن، وعلى حد تعبير مارتن أنديك السياسي الأمريكي المعروف والخبير بالشرق الأوسط، ونائب رئيس ومدير برنامج السياسة الخارجية بمعهد بروكنجز، فإن ثورة شباب مصر السلمية قد أدت إلى إحداث تغيير جذري في مقاربة الرئيس أوباما بوضعه الولايات المتحدة على الجانب الصحيح من التاريخ، فإنه لا عودة بعد هذا إلى الوراء (مارتن أنديك، صحيفة “فاينانشال تايمز”، 14 فبراير/ شباط 2011) . ولاشك أن كثيرين من كبار الكتاب والمحللين في جميع أنحاء العالم قد كتبوا بإعجاب منقطع النظير عن الثورة المصرية وعن سلميتها، وأطنبوا في مديحها والإشادة بقيمها التآلفية والتسامحية والتكافلية التي تجسدت على أرض الواقع، وشهد العالم بأسره تجلياتها الملموسة بالصورة قبل الصوت، متمثلة في العلاقات الإنسانية الغاية في الرقي التي نسجتها أجواء الثورة بين أبناء الوطن الواحد، من دون النظر إلى معتنقهم الديني أو جنسهم أو شكل هندامهم .
 
ولعل هذا بالضبط ما اضطر حتى أولئك الذين ناصبوا الثورة العداء في بدايتها وسخروا من شبابها، ونعتوهم بشتى النعوت الجارحة والخادشة للحياء أحياناً، ما اضطرهم فيما بعد للاعتذار عن سقطاتهم بأشكال اعتذارية مختلفة، ومعبرة عن قوة ومتانة المحتوى الإنساني العميق الذي يجسده الضمير الإنساني الحي الذي يجمع بني البشر على اختلاف أجناسهم وأديانهم ومشاربهم .
 
وعلى ذلك فإن جميع المنادين بإعلاء صروح الحرية والكرامة والعدالة والإخاء الإنساني في العالم أجمع، الذين افتتنوا بعظمة الثورة الشعبية المصرية وبمحتواها الإنساني الرفيع، سوف يصرون بإخلاص شديد على أن يستمر هذا الطابع الحضاري والإنساني الناصع لهذه الثورة الشبابية والشعبية المصرية، وأن لا يخدش طابعها الإنساني الجميل أي خدش لا إنساني ولا تسامحي يمكن أن يخدش ويشوه صورتها .
 
نقول هذا الكلام لمناسبة قيام بعض جماعات شباب الثورة المصرية بإصدار ما أسمته بقائمة العار، والتي أدرجت فيها أسماء وصور عدد من الفنانين من مطربين وممثلين ومخرجين، مبررةً ذلك بأن هؤلاء اتخذوا مواقف مناوئة لثورتهم، ومهاجمة شبابها وتخوينهم، وإلصاق أبشع النعوت والأوصاف بهم .
 
نعم قد يكون بعض هؤلاء الفنانين اتخذ مواقف سلبية، متفاوتة الحدة، من الثورة المصرية ومن الشباب الذين أطلقوا شرارتها الأولى وصعدوا بها إلى الذروة، وذلك في خضم عملية الاصطفاف المصلحي واسعة النطاق (باتساع نطاق الثورة وشمولها كافة المحافظات المصرية)، والسريعة التي فرضت نفسها فجأة على كافة فئات وشرائح المجتمع المصري من مختلف ميادين العمل والإنتاج، وبضمنها الأوساط الفنية والأدبية، في ظل إحماء شديد للماكينة الإعلامية الحكومية التي شكلت ضغطاً ابتزازياً هائلاً على كافة أوساط الرأي العام المصري .
 
إنما هذا لا يمكن أن ينهض مبررا بالمطلق، لأن يتم شطب هؤلاء الفنانين بمحاولة اغتيالهم فنياً وتمييزهم بقوائم سوداء بقصد تنفير الرأي العام منهم وعزلهم اجتماعياً، وبما يفضي إلى إنهاء حياتهم الفنية .
 
حرر في 19 مارس 2011