المنشور

تراجيديا سياسية كاريكاتورية


بعبارات تحقيرية غير لائقة مثل “الجرذان” و”الخونة” و”تعاطي المخدرات” رمى الرئيس الليبي معمر القذافي أبناء شعبه المنتفضين ضد حكمه الاستبدادي المستمر منذ عام ،1969 حين أطاح في انقلاب عسكري بملك ليبيا . واعتبر القذافي أن نظامه يتعرض لمؤامرة من تنظيم القاعدة وعناصر أجنبية أخرى .
 
الرئيس اليمني علي عبدالله صالح الواقع في المأزق نفسه، خاطب أعضاء البرلمان اليمني بالقول “عليكم أن تعوا وتحترسوا مما يدور حولكم”، مستشهداً بالمثالين التونسي والمصري . وقبل ذلك كان وجه الرسالة نفسها إلى أفراد الجيش اليمني يوم 26 فبراير المنصرم، وجاء فيها: “هناك تآمر مازال قائماً على وحدة وسلامة أراضي اليمن” .
 
رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي هو الآخر اعتبر التظاهرات الاحتجاجية الشعبية الواسعة ضد حكومته، مؤامرة من قبل بقايا النظام الصدامي البائد وخلايا حزب البعث التي تتحين الفرص للاستيلاء على السلطة من جديد في العراق .
 
هل هذا معقول؟ هل نحن في حلم أم في علم؟
 
كيف تغيب الكياسة والرزانة والرصانة والحكمة ورباطة الجأش لدى أي انعطاف حاد في الأحداث على النحو الذي عايناه في الحوادث الجارية في ليبيا والعراق واليمن .
 
كيف اختفت فجأة صفات ومناقبيات القائد وحلت مكانها أشكال شبحية جامدة التقاطيع وكاريكاتورية الحركة والتعابير؟
 
وكيف تحول قادة الشعب الساهرون على تصريف شؤونه وتعلية مقاديره وإمكاناته وطاقاته والذود عن مصالحه- كيف تحولوا وانتقلوا فجأة إلى الضفة الأخرى المناكفة والمناوئة له على النحو الكاريكاتوري “المدهش” والمفجع الذي رأيناه .
 
هكذا هي إذن الحال العربية، نظرية المؤامرة ليست قصراً وهوساً لدى العامة وحسب، وإنما هي تطاول النخب الحاكمة أيضاً، على نحو يصعب تصديقه، ذلك أن عود الثقاب ما كان ليشتعل لولا وجود القش والبنزين ونسمات الريح التي تلفح “أكوام” القش .
 
طبعاً لا أحد في هذه الحال سوف يصدق ترهات نظرية المؤامرة، ذلك أن الجميع يكاد يقتنع بتكاثر وتراكم العوامل الموضوعية لحدود الضغط القصوى المولدة للاحتقان ومؤداه السخط العام المفضي، قانوناً اجتماعياً، إلى الانفجار المفاجئ .
 
لقد استغرق الأمر جيلين كاملين تعاقبا على معايشة ومكابدة عملية التراكم المؤلمة تلك بتأشيراتها التراجعية الشاملة لكل مناحي الحياة العربية حتى شخص فيها الاستبداد كسيد وحيد أوحد للموقف، بما مثله من وأد لكل محاولة إصلاحية مهما تواضع شأنها .
 
بيد أن الرئيس الليبي وأنجاله مازالوا ينكرون ولا يريدون تصديق هذه الحقيقة، وذلك من هول صدمتها لهم . فلقد تراءى لهم حتى آخر لحظة قبل أن تزف لهم نبأ استحقاقها، أنهم مخلدون في دنيا الحكم الليبي، وأن أربعين سنة من سيطرتهم على مقاليده، وبمعيته أناسه المغبونون، قد كرست لهم “ديمومة الجلوس على الكراسي”، كما ذهب العقيد مرة في إحدى تجلياته “البديعة” حين أراد تفسير معنى الديمقراطية . ولعلهم في حمأة نسيانهم هذه الحقيقة والانغماس في “سرمدية ديمومة جلوسهم على الكراسي”، قد غاب عنهم أن للتاريخ الاقتصادي والاجتماعي المتحرك حتمياته التي إذا حان أجل مفاعيلها لا تستأخره .
 
وفي التحولات الكبرى والعميقة التي تجري اليوم تباعاً أمام أعيننا المشدوهة بعجائبها، ما يدلل على أن الجديد لم يعد يحتمل التعايش والتآلف مع القديم، حسبما ذهب إليه فلاسفة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، توصيفاً لمثل هذه الحالات النوعية المتراكمة كمياً على مدى زهاء خمسة عقود .
 

حرر في 11 مارس 2011