المنشور

إشكاليات فكرية لما بعد الثورة


إن تغلغلَ سمات الحداثة في المجتمعات العربية يغدو الآن مترافقاً مع نشاط الجماهير الفاعل.

علينا ألا نرسم صورةً ورديةً للمستقبل، فنحن ندخلُ أنفاقاً جديدة، لقد وصف أحدُ الكتاب ما يجري بأنه دخولُ بعضِ الأقطار العربية لذاتِ المسار الذي دخلتهُ دولُ أوروبا الشرقية في هدمهما أنظمةِ دول الرأسمالية الحكومية الشمولية. وهو توصيفٌ حقيقي.

وقد قال رئيسُ وزراء مصر الجديد إنه يمضي في طريق الاقتصاد الحر.

إن المستوى الاقتصادي الاجتماعي المُراد تغييره من قبل الجماهير يتراجع لتجري الصراعات مرةً أخرى حول المذاهب والأديان.

لكن الصراعات الايديولوجية والطبقية تتداخل بحدة وبالتباسات كثيرة.

لقد كانت تونس مقاربةً لنظام علماني لكنه دكتاتوري، بشكل طبقي وبشكل شخصي، فالرأسالميةُ الحكوميةُ المهيمنةُ على الاقتصاد التي صارعتها الطبقةُ العاملةُ على مدى عقود، ومعها البرجوازيةُ الخاصة الحرة، لم تستسلم حتى الآن، وهي مسألةُ سنوات وتغييرات اقتصادية واجتماعية عميقة.

مقاربة تونس للحداثة هنا تعني وجود علمانية ديمقراطية، فلا الإسلام يُستخدمُ لقهر العامة والنساء والحرية العقلية، وبالتالي يتم إخفاء الصراعات الاجتماعية وتبريرها، ولا أي حزب وجماعة تهيمنُ على المؤسسات العامة بشكل طويل.

فلابد من وجودِ جماعةٍ تهيمنُ على المؤسسات العامة فترة محددة حين تطرحُ برنامجاً مقبولاً من الناخبين.
لكن اتساق وتكامل هذين الجانبين ليس سهلاً خلال الصراعات السياسية الساخنة، فالقوى الاجتماعية المضروبة أو المحافظة لا تريد أن تترك سيطرتها على المؤسسات الاقتصادية، ومن هنا تم حرف الصراعات نحو الدين، فجرى تحريك حزب النهضة، والهجوم على الحانات وتم تكوين “فزّاعة” معينة لتخويف الجماهير من المرحلة الراهنة.

وهو مماثل لما يجري في مصر من تفجير الصراع بين المسلمين والمسيحيين وحرق كنيسة من قبل السلفيين المتطرفين.

أن يكون الصراع السياسي واضحاً ويتجسد في صندوق الانتخابات والبرامج السياسية والحزب المنتصر وتطبيق برنامجه إلى آخر السلسلة الديمقراطية، ان هذا الصراع لا يُراد له أن يُطبق.
لكن هذا يتطلب ألا تكون الدولة دينية وكذلك الأحزاب، ومعنى هذا أن تكون المعركة السياسية صافية ديمقراطية لا تستدعي العقائد.

تجرى في تونس ومصر عمليات التنظيف الاجتماعية هذه في ظل تدخلات رهيبة من القوى المتضررة.
أما دول المشرق العربي الإسلامي المسيحي فهي فيما قبل هذه الفترة.

تونس التي مهّد النظامُ السابقُ للعلمانية فيها على نحو مديد، لن تستطيع المذهبيةُ السياسية لما بعد الثورة أن تعرقلَ ديمقراطيتَها، فيتركز الصراع الراهن في تفكيك الرأسمالية الحكومية وحزبها المعبر عنها، ومجيء تحالف أو تجمع وطني يدير هذه المؤسسات عبر برنامج جديد، سوف تحددهُ أصواتُ الناخبين المعطاة لهذه الجماعات ونسبها والبؤرة السياسية القيادية التي سوف تظهرُ من خلالِ هذا المخاض. فإما إلى مزيدٍ من ازدهارِ القطاعات الخاصة على حساب القطاع العام، وإما قيادة (وربما استبداد يؤسسهُ اتحادُ الشغل) وإما تعاونٌ ديمقراطي وطني بين القطاعين. وهذه الصراعيةُ الحزبيةُ تعكس الصراعات الطبقية الغامضة في هذه المرحلة.

مصر لا تختلفُ عن ذلك، لكنها تصعدُ على المسرح الديمقراطي الحديث بخلفية دينية أكثر تعقيداً، إضافةً إلى مشكلة السلطتين السياسية والاقتصادية، فالعلمانيةُ الشبابيةُ التوحيديةُ التي ظهرت ووحدت الجمهور الهائل المسلم المسيحي، تحاول القوى المضادةُ ضربَها بسرعة، كما تقوم بتضييع ملامح السلطة الجديدة الصاعدة بشكل ديمقراطي، عبر استنساخ للدولةِ الساقطة، متعددِ الأشكال وحربائي، والشباب الذي علمن السياسةَ يحاول جاهداً أن يشارك في صنع سلطة ديمقراطية، وحين قال رئيس الوزراء الحالي إنه يعمل لاقتصاد حر، وهو أمر ردده المجلس العسكري الحاكم بشكل آخر في بياناته الأولى عن(مجتمع حر)، وهي كلها ألفاظ عامة مجردة ليست معبرةً عن جوهر العملية الصراعية الاقتصادية، بضرورة استعادة الدور القيادي للقطاع العام، في ظل الديمقراطية، وليست كلمات البسطاء عن الرغيف والإضرابات المطلبية وغيرهما سوى حفر شعبي ملموس في الواقع لما يريدهُ الشعب، لكن من دون إزالة الاقتصاد الحر، وهي مجموعة من المهام الشائكة التي تتطلب قيادة جدلية تجمع بين الحرية وقيادة القطاع العام، لكنها لن تتحقق إلا بالتجريب الانتخابي والصراعات السياسية والفكرية الطويلة المريرة.

فمن المحتمل نشوء ليبرالية (فوضوية أو نزقة) في البداية ثم تظهر الجماعاتُ الاشتراكية الديمقراطية الجامعة بين اقتصاد حر وشعب شبعان.

أخبار الخليج 12 مارس 2011