المنشور

صناعة (الثورات)


كل شيءٍ دخلَ مجال التصنيع حتى الثورات!

فالعملياتُ التصنيعية التي طالت الثمارَ الزراعيةَ المختلفة وطورتها ودمجتْ بينها وصنعتْ الولادات البشرية، لم تكن نائيةً عن صناعة العمليات الاجتماعية المختلفة، ومنذ قديم الزمان كان الساسةُ يدركون بعضَ جوانب الخلق الاجتماعي، ويستطيعون التأثيرَ في الأحداث الاجتماعية الصغيرة ويتمكنون من إحداثِ بعض الفوضى للخصوم عبر تحريض (الغوغاء)، كما كانوا يصفون الناس، أو يقومون بعمليات الاغتيال لاحداث تحول قسري في مسار التاريخ.

لكن مع اكتشاف ان للتاريخ أسباباً وللحركات الجماعية وللانقلابات قوانين غائرة في الوجود الاجتماعي، غدتْ الثوراتُ علماً من العلوم المرتبطة بالمسارات الاجتماعية وقراءة الأنظمة والتشكيلات الاقتصادية – الاجتماعية العابرة للتاريخ.

وكما أن الثوريين يستفيدون من هذه القوانين ومعرفتها والتأثير فيها فكذلك أعداء الثورات يتمكنون من معرفتها والتأثير فيها وخلخلتها وتفجير بنى إجتماعية معادية لهم غدت تضرهم!

ولهذا التبست ثورة المجر سنة 1956، فروسيا تصفها بالثورة المضادة والغرب يصفها بأول الثورات الديمقراطية في عالم السيطرة الروسية.

هنا بدأت المخابرات الغربية تتعلم كيف تصنعُ الثورة، لكن ثورة المجر ثورة ديمقراطية حقيقية، وكانت أول الإشارات الكبرى إلى أزمة دول رأسمالية الدولة التي طورت الشرق وتجمدت إمكانياتها على التغيير بسبب غياب الديمقراطية، ووُجدت فئاتٌ وسطى في المجر، هذه الجمهورية الأكثر ثقافة في شرق أوروبا، تطمحُ إلى التغيير وزوال السيطرة الروسية.

وعبر شحن هذه الفئات وجذبها لنموذج الديمقراطية الرأسمالية المتطورة، ونزع ثقافة الاستبداد الروسية التي تغلفتْ بماركسيةٍ زائفة، وبطرح ماركسية إنسانية من جانب بعض القادة المجريين، وقيام الغرب باستثمار هذه العناصر ودفعها إلى الانفجار، حدث ما سمي بالثورة المجرية.

هنا كان الاشتراكيون الشرقيون الذين صنعوا الثورات قديماً قد تبلدوا فكرياً، وتجمدوا سياسياً، واعتبروا ما حققوه نهاية التاريخ وأن الطبقات تتلاشى وأن الصراع توقف إلى الأبد. لكن كان عليهم بعد هذا أن يتعلموا من هذه الجماهير الغفيرة التي ظنوها غير قادرة على تعليمهم شيئاً عبر سلسلة من الثورات التي اشتركت فيها هذه الجماهير مع عمليات جراحية تعاونت وتصارعت فيها المخابرات الروسية مع الأمريكية، وكان ذلك بداية لما حدث لاحقاً من بركان.

وقد رأينا الشباب في الوطن العربي حاليا يتعلم صناعة التاريخ من دون أن يدرك انه يُدخل إنجازات جديدة في علم صناعة الثورات.

يقوم علمُ صناعة الثورات على إدراك قوانين التطور الاجتماعي، وعلى معرفة هياكل الإنتاج وحدوث أزمات عميقة تمنع تطورها، وهذا ما يؤدي إلى سلسلة من الصدامات السياسية والاجتماعية تبدو أحياناً غامضة التفسير، فأقسامٌ اجتماعيةٌ هامة في المجتمع لا تستطيع أن تستمر في العيش ضمن هذا الأسلوب من الإنتاج الذي عفى عليه الزمن، كما أن الطبقات التي تملكُ وتُسيّر المجتمعَ لا تستطيع أن تواصلَ سيطرتَها بالأسلوب القديم، وهنا ينفتح زمنُ الأزمة الاجتماعية.

الآن انفتح زمنُ الأزمة الاجتماعية في تونس ومصر، والغلاف السياسي الأول للطبقة الحاكمة تبخر خلال أسبوعين من الحراك البشري غير المسبوق، لكن المسألة ليست غلافاً بل طبقةً تُسّير المجتمعَ حسب وعي قديم، وخطط اقتصادية واجتماعية لم تعد مطابقة لحراك السكان وتبدلهم.

إن أسلوبَ الانتاج العتيق القائم على رأسمالية متخلفة تم إصلاحها بانفجار في قطاع خاص غير منتج وغير محول للبنية الوطنية التي لم تثر بهياكل سياسية منتخبة، يتطلبُ إعادةَ هيكلةٍ بين القطاعين العام والخاص، وقيادة إنتاجية طليعية من القطاع العام في زمن التقنية الحديثة وإعادة تشكيل السكان: ضرورة التوسع الكبير في العمالة الشابة المتطورة تقنيا المعيدة للإنتاج الوطني، والقضاء على الهدر الحكومي التوظيفي المالي، وإدخال النساء بكثافة في إنتاج متطور، ووضع الفوائض في القطاعات المتخلفة.. الخ.

الآن تتحدد الخياراتُ السياسية والاجتماعية، فإذا لم تدركْ الطبقات الحاكمةُ الضرورات المعوقةَ لأسلوب الإنتاج، تواصلُ الأزمةُ السياسيةُ الاجتماعية قلقها عبر صراع المجموعات والكتل والاضرابات والفوضى عامة، وهذا ينطبقُ كذلك على الجمهور الذي لا يدركُ هذه السببيات العميقةَ للاضطراب السياسي، ويندفع هنا وهناك من دون أن يصلَ إلى جوهر الأزمة، كذلك إذا لم تتواجد مجموعاتٌ سياسيةٌ معرفيةٌ مدركةٌ لهذه السببيات أو تكون غيرَ قادرةٍ على التأثير في الجموع، بسبب أشكالٍ متخلفة من الأدوات السياسية والصلات التنظيمية.

وقد فهمت المجموعاتُ الشبابيةُ في بدءِ ظهور الأزمة ورؤوسها الصاعدة من تحت مياه الجليد العميقة، السطوحَ الأولى من هذه الرؤوس الطالعة، كجمود القيادة، وتخلف البلدين المريع عن التطور خلال العقود الأخيرة، ووجدت في يدها أدوات التأثير الاجتماعية: النت والمجموعات وأشكال التظاهر.

لكن التأثير في الهرم الاجتماعي المجمد خلال عقود، وإعادة الإنتاج حسب مصالح الأغلبية الشعبية وقوانين الثورة التقنية وقوانين السوق، مسألة أخرى.

لهذا فإن الثورة تبدأ الآن حقيقة، وتستبدل الطواقم التنفيذية التي تدير وتوجه الفوائض حسب الهياكل القديمة.

إن القوى العميقة المؤثرة هي الضباط الكبار في الجيش والمخابرات، وقادة الأحزاب والنقابات، ورجال الدين الكبار، والقوى الرأسمالية الكبيرة، فبعد ابتعاد الشباب عن التأثير المباشر تطلع هذه القوى وتوجه البلدين نحو أهدافها المجهولة والمتعددة والمتناقضة ربما، ولا توجد الآن سوى الرأسمالية الحرة وتنوعاتها، فإما ديمقراطية وإما استبدادية. إما علمانية وإما دينية؟ ومن يقود: أهو القطاع العام أم الخاص، العمال أم الفئات الوسطى؟ أسئلة تحسمها التطورات التالية والوعي وصراع التنظيمات المختلفة والانتخابات.
 
أخبار الخليج 5 مارس 2011