المنشور

تأملات في الأحداث الجارية في مصر


لقد انطلقت شرارة الثورة الوطنية للشعب المصري المناضل في يوم 25 يناير 2011م تفاعلا مع ثورة الشعب التونسي، وانسجاما وسقوط أول شهيد تونسي قد أشعل فتيل تلك الثورة، وهو الخريج الجامعي محمد بوعزيزي الذي أحرق نفسه احتجاجا على مصادرة عربته التي كان يقتات منها لقمة عيشه.

انطلقت ثورة شعب مصر من أجل اسقاط النظام ورحيل الرئيس حسني مبارك.. ومن أجل التغيير ونشدان الحرية والديمقراطية والعدالة والكرامة الانسانية.. هذه الثورة الشعبية، هي ثورة تاريخية ومفصلية، تقودها (فئة مميزة) من (طبقات مختلفة).. هي طبقات فقيرة، وطبقات متوسطة، وطبقات غنية.. هؤلاء هم أبناء للفلاحين، وأبناء للعمال، وأبناء للأطباء، وأبناء للمحامين، وأبناء للمدرسين، وغيرهم من مختلف الانتماءات الطبقية.

لقد سجل هؤلاء المحتجون – بتظاهراتهم الحاشدة في مختلف مدن ومحافظات وساحات جمهورية مصر العربية، وعلى رأسها ميدان التحرير – ملحمة من أعظم الملاحم النضالية والبطولية في التاريخ الحديث، قد توازنت بحجمها النضالي في مواجهة تينك الفترتين التراكميتين الطويلتين اللتين امتدتا أربعين عاما هما فترتا الرئيسين أنور السادات، حسني مبارك فترتان تراكميتان اتسمتا بالعسف وهدر المال العام وتراكم الثروة في أيدي من يملكون وهم قلة من الطفيليين، وايصال من لا يملكون من طبقات الشعب الفقيرة الى قاع الحضيض، بنسبة 40% تحت خط الفقر ضمن دخل الفرد الذي لا يتجاوز الدولارين في اليوم.. ناهيك عن تعديل مواد الدستور فيما يتعلق بتمديد الرئاسة مدى الحياة، ونقل هذه الرئاسة عبر توريث الحكم للأبناء.

علاوة عن تضييق الخناق حول الأحزاب القومية واليسارية والشيوعية، وما يتمخض عن سعي النظام إلى فتح المعتقلات أمامها، طبقا لقوانين الطوارئ.. الى أن حانت لحظات الحسم بانعطافات تاريخية.. ليعلن الشعب بثورته 25 يناير أنها علامة فارقة، وعلامة فاصلة في ضرب النموذج العظيم، بمفهومها الحضاري وطابعها السلمي.. رغم ما واجهته جماهير هذه الثورة في يوم 2 فبراير من عسف هجوم عصابات منظمة لميليشيات سرية من الحزب الوطني و”البوليس السري” وهمجية الغوغاء المأجورين والذين استخدموا الخيول والبغال والجمال، وتسلحوا بالقنابل المولوتوف والرصاص والقضبان والسكاكين والهراوات بهجوم بربري على أناس عزل لا يملكون من المواجهة سوى ارادتهم.. لأن هؤلاء المناضلين قد صمموا على انتزاع مطلبهم، وهو تغيير الأوضاع ورموز النظام.

وحسبما فاجأت هذه الثورة الجماهيرية العفوية (النظام السياسي) بشرارتها.. فإنها قد فاجأت الأحزاب السياسية بمختلف تلاوينها وانتماءاتها وتياراتها، التي بدور (هذه المعارضة الوطنية) قد تبنت في بداية الثورة موقف المشاهدين على كراسي المتفرجين.. مترددة (هذه الأحزاب) حائرة بخطوات متعثرة.. والمتمثلة هذه الأحزاب في (التجمع الديمقراطي التقدمي، وحزب الوفد، وحركة كفاية، والتجمع الناصري، وحزب الغد، والجمعية الوطنية من اجل التغيير) فانها بدلا من اتخاذها زمام المبادرة إلى قيادة الجماهير.. فقد حدث العكس، حين ظلت عاجزة عن تفعيل رسالتها الحزبية والوطنية والجماهيرية.. الأمر الذي كشف عن غطائها بأنها خالية الوفاض أيديولوجيا وشعبيا، بقيادة ثورة 25 يناير الوطنية.. ولطالما هذه الأحزاب أكدت افتقادها البرنامج السياسي المتكامل المنشود، والقائم على قضايا التحليل والتنبؤ بمجريات الأحداث، وطرح البدائل خلال مرحلتي  (الحد الأدنى) للمطالب و(الحد الأقصى) للأهداف، ضمن مفهومي (الإستراتيجية والتكتيك)  وعبر دراسة المتناقضات (الأولية والثانوية) ضمن وحدة وصراع الأضداد.. فإن هذه الأحزاب قد جرتها الأحداث التاريخية المفاجئة جرا.. مثلما انقادت (هذه الأحزاب) لتداعيات هذه الثورة انقيادا.. ومن هنا فإن الشعوب قاطبة، وأنظمة العالم كافة، قد رأت كيف ان هذه الأحزاب قد أضاعت بوصلتها الحزبية والأيديولوجية في نهاية المطاف من أجل قيادة هذه الثورة.. وكيف تاهت (المعارضة الوطنية) في تلمس معالم طريق هذه الثورة من اجل إنجاحها وانتصارها ودفعها نحو تحقيق أهدافها.

وبالتالي فقد بدا جليا ان هذا الحزب لم يكن يملك ازاء لهيب هذه الثورة سوى رفع شعاراتها بسعيه إلى ركوب الموجة على انجازات ومكتسبات ثورة هؤلاء الشباب.. وكيف ذاك الحزب الآخر قد سارع إلى حمل لواء مطالب الجماهير، محاولا الالتفاف على تضحيات وشهداء هذه الثورة، والتسلق على اهدافها ومطالبها.. انطلاقا من نظرة هذه الاحزاب الفوقية والانتهازية الممثلة في المفهومين (التمثلية والاستبدالية)، حيث ان مفهوم (الاستبدالية) هنا هو مبادرة هذا الحزب إلى القيام بدوره الحزبي والنخبوي بـ (استبدال) دور الجماهير الشعبي انطلاقا من ايمان هذا الحزب او ذاك بأن جماهير الشعب هي عادة ما تكون عاجزة عن قراءة الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي.. ومفهوم (التمثلية).. أي يعني قيادة الحزب لهذه الثورة وتمثيله للشعب، مما يؤكد هذا الحزب نظرته الاستعلائية منطلقة من ذاك (البرج العاجي) بمقولة دونية ومرتبة تهميشية تقول “ان الجماهير هي عفوية بطبيعتها وبأنماط أفكارها، سطحية بتحركاتها وبقيادتها للثورة، عاطفية بافتقارها إلى النضج الفكري والوعي الاجتماعي، وافتقادها الرؤية السياسية والفكرية والأيديولوجية”، ويكفي استدلالا بهذه الصدد هو ما صرح به المفكر الفلسطيني (عزمي بشارة) بتعليقه على تسمية (لجنة الحكماء) التي تفاوض النظام المصري بشأن اهداف الثورة.. قائلا: “ان هذه التسمية معناها الأساسي هو وصف جماهير الشعب بالغباء والدونية”.
 
ولكن أيا كانت الأمور وما تمخضت عنها من نتائج، فانه يبقى القول الملح إن ثورة مصر اليوم هي في أمس الحاجة الى من يمثلها تمثيلا حقيقيا، ويتحدث عنها وباسمها، ضمن قيادة وطنية تقدمية مستنيرة موحدة صادقة وملتزمة بأهداف الثورة وأماني الشعب، من دون اعتماد مفهومي (التمثلية والاستبدالية)..
 
إن جماهير الشعب هي في حاجة بالغة الإلحاح،  الى معارضة واعية متماسكة وناضجة، وتسترشد من برنامجها السياسي طريقها الصعب، بدلا من تخبط هذه الأحزاب وتعثرها بعشوائية الحلول وعجزها عن طرح البدائل وخوضها في العموميات، بضبابية التناقضات في وجهات النظر المتعارضة والاختلافات في الآراء المتصارعة، التي هي ظاهرة متخلفة لم تخدم رأيا شعبيا، أو رأيا جماهيريا.. بل حتى أدنى أساليب التغيير أو التأثير.. بل لم تخدم سوى النظام وقوى التخلف الاقصائية المتسلقة..

اذاً يستوجب على هذه الأحزاب الوطنية السعي إلى الخروج من أزمتها الحزبية والتنظيمية، كي تستطيع تحمل مسئوليتها الوطنية والجماهيرية والتاريخية، وان تنهض من مؤخرة ركب الثورة الى مقدمتها وفي صفوفها الأمامية، من اجل ان يتسنى لها رسم المرحلة التاريخية القادمة والمستقبلية.. فهل ستؤكد هذه المعارضة الوطنية كفاءتها الوطنية ومسئوليتها المبدئية بمستوى الحدث التاريخي لثورة 25 يناير؟
 
أخبار الخليج 11 فبراير 2011