المنشور

استقرار (قِـدْرُ) الدولة


في مقالهِ “سقوط خرافة الاستقرار”، يرينا الكاتب المصري محمد حسنين هيكل، كيف أن أي مطلب تغييري في مجتمعات القمع والاستبداد، أو أية محاولة إصلاحية حقيقية، يجري تكميمها وإلغائها باسم المحافظة على الأمن والاستقرار في البلد. تحذّرك هذه الأنظمة، بأن عليك أن تتعايش مع واقعك المتهرئ بالفساد والنهب والاستبداد والقهر، لكن المستقر، كي لا تقع في فوضى غير مستقرة ستأتي. تصوّر لك أن ضياع الاستقرار هو مصيرك ومآلك الذي ينتظرك ما إن تخرج عن قبضة استقرارها. وحين تقوم بما يهدد ثباتها المميت، فإن أول ورقة لعب تحركها، هي ورقة الفوضى البلطجية، لتوهمك أن ليس لديك إلا خياران، إما هي وإما هذه الفوضى البلطجية.
 
حتى آخر قطرة رمق للسلطة، يرواح نظام (مبارك) عن مكانه بهذه الورقة. تحذير الشارع المصري أن ما يحدث زعزعة لاستقرار مصر، وأن “عليه أن يعي ما يدور حوله من أمثلة لعدم الاستقرار”. حتى آخر قطرة، يطالب الشعب بالحفاظ على مكتسب الاستقرار الذي يوفره نظامه.
 
إنها التفاهة التي توهمك أن القِدْرُ المشحون مستقرٌ على النار، فيما درجة الغليان داخله ترتفع منتظرة من يرفع الغطاء. هذه الأنظمة تُشبه هذا القِدْر الذي يبدو من الخارج مستقراً، لأنك لا ترى كيف أن النار (نار الفساد والتضييق على الحريات وإلغاء مواطنية الإنسان) تعمل على هز استقراره من الداخل، فتنسى أن لحظة الانفجار ستقع في لحظة ما. وحين يقع الانفجار، تحاول هذه الأنظمة أن توهمك أنه وليد لحظة التخلي عنها، لا أنه محصلة نارها.
 
ما الذي يحفظ استقرار (قِدْر) الدولة؟
 
يحفظه عدم الاستخفاف بقَدَر مواطنيها والمؤسسات التي هي مسؤولة عن حفظ قَدَرهم وأقدارهم. الاستقرار “معناه الحقيقي الاتساق مع مبادئ الحرية والعدل وكرامة الإنسان” [1]. أما الاستقرار بالنسبة للأنظمة المستبدة هو استقرار لقوتها المسيطرة على الدولة، لا استقرار الإنسان في الدولة ولا استقرار الحرية ولا استقرار العدالة ولا استقرار المساواة ولا واستقرار المجال العام ولا استقرار المجتمع المدني الذي تقر الدولة وجوده ودوره الحقيقي في المجتمع.
 
ماذا قدم استقرار (قِدْر) مبارك؟
لقد قوَّض (استقرار) نظام مبارك قَدْر مصر التي كانت تمثل عربياً الموقف والمبدأ والتاريخ والثورة والنضال والتنوير وأحالها إلى مصر فاقدة لأي دور حقيقي داخلي أو خارجي، عربي أو إقليمي.
 
لقد قوّض (استقرار) نظام مبارك الأحزاب السياسية والمؤسسات القادرة على إحداث تغيير حقيقي في المجتمع، وقوّض المجال العام محيلاً إياه إلى مجال مخنوق من الكلام والحركة والفعل الحر.
 
لقد قوّض (استقرار) نظام مبارك قَدْر المواطن الحر وصاحب المبدأ “إن الحقيقة العارية أننا أصبحنا، بفضل الحكومة الحالية وبفضل سكوتنا عليها، مجتمعاً من المرتشين والمنافقين مهما حاولنا أن نهرب من هذه الحقيقة”[2].
 
لقد قوّض (استقرار) نظام مبارك من قدر كرامة المواطن المصري ” كرامة الإنسان في مصر.. كالأبقار والدجاج والأرانب والنمل.. أصبحت دماء المصريين رخيصة، وكرامتهم بلا قيمة.. لماذا يهان المصري في الخليج، ويموت في العراق، وينكل به في ليبيا، وأخيراً السودان؟” [3]
 
لقد قوّض (استقرار) نظام مبارك الاقتصاد في مصر، وأحاله إلى اقتصاد نهب وفساد ورشاوي واستيلاءات وسرقات. وفي الوقت الذي تبلغ الأموال تحت يد الأسرة الحاكمة حوالي 55 بليون دولار أمريكي، فإن متوسط دخل الفرد المصري يبلغ ٩٨ جنيهاً للفرد شهرياً، فيما خط الفقر ١٦٤ جنيهاً للفرد. لقد قوّض الطبقة المتوسطة، وأحال البلد إلى قلة من الأثرياء والسرّاق يستولون على المال العام، وأغلبية فقيرة غارقة في الديون.
 
لقد قوّض (استقرار) نظام مبارك مكانة رجل الدين وجعله مسبحاً باسم النظام. إصدار “تعليمات مشددة لأكثر من 54 ألف إمام بضرورة توحيد خطب الجمعة تحت موضوع واحد وهو “وجوب طاعة ولي الأمر”، والتشديد على أن مخالفته معصية لله وخروجا الإسلام عملا بنص القران الكريم “وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم” [4].
 
لقد قوّض (استقرار) نظام مبارك دور المثقف الذي وظيفته كشف تفاهة السلطة وفضح آليات استبدادها واستحواذها وقمعها، جعله أحد أدواتها وممثلاً رسمياً لها ومتحدثاً باسمهاً وحاملاً لحقائبهاً كما المثقف جابر عصفور (الذي لحم كتافه من قِدْر النظام) والذي صار مهمته المحافظة استقرار النظام بدلاً من إقرار الحرية. وراح يقرّ النظام ويُقْسم للنظام ويحمل حقيبة وزارة ثقافة النظام. وكما مع شاكر النابلسي المثقف الليبرالي (التافه) الذي راح يركّب الآداب السلطانية التي تجوز توريث الحكم في التراث، على الدولة المدنية الحديثة. وليعطي بذلك مشروعية لتحويل الجمهوريات إلى سلطانيات.
 
هل كان نظام مبارك نظام استقرار؟ أم كان قدراً يطبخ غليانه على مهل ليوهمنا في لحظة انفجاره أنه لم يكن يحمل انفجاره في بطن نظامه؟
 
***** 
 
احذروا الثورة قبل أن تأتي..
 
كل شيء يمكن أن يتدارك قبل انفجار القِدْر (الثورة)، لكن لا شيء يمكن ترقيعه بعد أن تقوم. ليس سوى الغضب والهيجان والانفلات وغير المتوقع. كل شيء يصبح خارج الترقيع وخارج اللملمة. الثورة لا تعترف بالترويض بل بالتحريض. زمن الثورة لا يعود أبداً للوراء، كل شيء يصبح أمامها. الثورة تخلق زمنها وتلهم ما بعدها. لا قوة يمكن لها أن تقمع ثورة يائسة صبّرت نفسها طويلاً. لا أحد يمكنه أن يوقف ثورة أجلت طويلاً تاريخ قيامها. ثورة بقت في ترقب إصلاح يأتي من تلقاء نفسه، أو من تلقاء إلحاح طويل مذل. لا أحد يمكنه أن يكبح انجرافها حين تسحبها سيول الشعب. الإصلاح والتغيير ومحاولات الترقيع تصبح تفاهة بعد أن تنفجر. لن تقنع بغير خلع جذري. خلعٌ يُسقط الأنظمة المستقرة، لينشئ استقراره الخاص بطريقته الخاصة..
 
هوامش:
 
[1] محمد حسنين هيكل: سقوط خرافة الاستقرار
[2] عمرو إسماعيل: نحو التغيير في مصر…ما نحتاجه الآن جمال عبد الناصر ديمقراطي
[3] من مدونة يا مبارك أنا خائف.
[4] naqed.info/oldforums/lofiversion/inde…