المنشور

مصر: الثورة والتغيير (6)

ما هو أفق التحول القادم في جمهورية مصر؟ هل فعلاً كما يقولون سوف تتجه لتكون دولة دينية شمولية محافظة يحكمها الاخوان؟ وإلى أي مدى يمكن أن يتحقق هذا الاحتمال؟ أم سوف تتوجه لتكون دولة ديمقراطية تعددية؟ أم سوف تتصارع فيها القوى السياسية الاجتماعية حتى الإنهاك وتجعل الشعب سلبياً يحن للنظام العسكري القوي ثانيةً؟ أم ستبقى كما هي مع ذهاب الرئيس فقط؟ كل الاحتمالات ممكنة.
ولنلاحظ بدايةً أن الجسمَ الشبابي الواسع النطاق غيرُ مسيسٍ بعمق، وليس له تجارب وظل بلا رأس سياسي بارز يظللُ أغلبية الجمهور حوله، ولكن وللغرابة فانه أكثر القوى صلابة وبقاءً على الهدف وهو تغيير النظام!
ان التجربة السياسية العارمة المتفجرة حالياً تمضي من خلالِ شعاراتٍ عامة، والحركات هي حتى فيها مختلفة بعض الاختلاف، ولم يستطع محمد البرادعي المرشح الأوفر حظاً في الاقتراب من أن يكون الرمز العام وأن يحظى بموافقة القوى السياسية الرئيسية التي راحت هي الأخرى تتقدمُ بمرشحيها المحتملين.
الجسمُ الشبابي العاطفي المتحمس ظهر أنه حتى الآن لم يُخدع، وأن كلامه حول الابتعاد عن الايديولوجيات والتيارات والأفكار العميقة هو كلام غير دقيق فقد ظل راسخاً في مطلبه بتغيير النظام ووقف مع الشعب الغفير الذي نزل في كل الميادين بشجاعة منقطعة النظير.
في حين أن الأحزاب (الطليعية) كالوفد والتجمع التقدمي والحزب الناصري سرعان ما ركضت للحوار مع النظام حول قضايا جزئية ولم تقف عند المطلب الرئيسي بتغيير النظام أولاً!
كان يفترض أن تشكل هذه الأحزاب جبهة وطنية وتلتف حول الشباب وتصبر حتى يسلم النظام بأهدافها لا أن تترك المتظاهرين الذين أشعلوا الأحداث وضحوا وتذهب وحدها منفردة مفتتة للتفاوض.
ولكن بعض القوى والرموز ظلت على موقفها ويبدو ذلك في موقف البرادعي واصراره على الهدف العام، ولكن كلمات البرادعي ليبرالية ذات وعي مبسط للصراع، وتبقى شعاراته في تعميق الدولة العصرية الديمقراطية هامة وأساسية، لكنه لم يتابع التجربة المصرية بصراع طبقاتها العميق، وأن الأغلبية الشعبية تريد مواصلة تجربة القطاع العام القائد للتنمية، وبضرورة أن يكون القطاع الخاص تحت هذه القيادة، لا أن يهيمن القطاعُ الخاصُ على التجربة كما قفزَ إليها من خلال حكم السادات ثم همش القطاعَ العام وبعثره وأكله في الحكم الراهن.
وكانت الوزارة الراهنة الآن قد أعلنتْ: (إبعاد رجال الأعمال عن الحكم) بعد أن وُصمتْ الوزارةُ السابقةُ بهيمنتهم الكاملة عليها.
القطاعُ العامُ الذي مثلتْ حقبة عبدالناصر مضمونهُ الصناعي التحويلي الوطني، وأسس التنميةَ والاستقلال، توجه بشكلٍ حاد ضد القطاع الخاص، ولم يجمعْ بين الديمقراطية والتنمية، بين حرية الأحزاب والتصنيع الوطني وقيادة القطاع العام، في حين جاءت الحقبة التالية لتؤسس الوجه المناقض كلياً!
فمرت مصر بحقبتين متضادتين كلياً، بشكلين سياسيين محدودين، بنظرتين جزئيتين مختلفتين، وكل واحدة منهما ذات إيجابيات وسلبيات، عصر عبدالناصر عصر القطاع العام والشمولية، وعصر السادات ومبارك عصر القطاع الخاص والاستغلال الواسع لجماهير الشعب البسيطة وعصر التعددية المظهرية، فيمكن أن يقوم السياسيون الحاليون بعمليةِ التركيبِ المنتظرة، بعمليةِ الجمع بين التنمية والديمقراطية، بين تطوير الحياة الاقتصادية للأغلبية الشعبية والاهتمام كذلك بنمو القطاع الخاص.
إن هذه الأغلبية لم تثُرْ فقط ضد القيادة لأسباب شخصية بل ثارت لأسباب موضوعية في الأساس، وخاصة لتركيز الثروة والمصالح والتنمية في كفة بينما بقية الكفة الشعبية تعاني شظف العيش وسوء الخدمات!
إن إعادة التوازن، وبناء التركيب الجامع بين إيجابيات المرحلتين النضاليتين السابقتين، يتطلبان تصاعد التحالف بين قوى العمال والفلاحين والبرجوازية الوطنية العقلانية.
لكن من الناحية السياسية والفكرية القوى السياسية لم تملك رؤية دقيقة وتعيش في صراعات واختلافات هائلة، فهي بدايةً تريد تأسيس المرحلة الانتقالية غير المتفق عليها، التي تختلف حولها، وهو أمرٌ قد يقود لتفجر الصراعات بينها وعدم القدرة على فهم المرحلة التركيبية المنتظرة المتجاوزة لهيمنة اتجاه واحد والجامعة لقوى المنتجين والمالكين في مجتمع مشترك تعاوني بينهما، يطرح التجاوز للنظام الراهن تماماً.
ولهذا فإن الفترة الانتقالية تتطلب صعود اتجاه ليبرالي ديمقراطي وطني تقدمي يخفف التناقضات بين التوجهات الحادة، ويفصل الدولة عن قوى المال والعسكر المتنفذة المتحكمة. وهو اتجاه يمكن أن يحققه البرادعي مع تحالفه الواسع مع قوى الشباب والقوى الديمقراطية والليبرالية واليسارية والدينية.
لكن القوى المالية الكبرى ودوائر الدولة ذات الجذور العميقة لن تترك هذا التحالف الهش يصعد أو يتقوى حكومياً، فهي منذ البداية تعرقله وتؤجل سيطرته على مقاليد السلطة، ثم وهي تعمل كل ما بوسعها لتفتيت صفوفه، خاصة أن الأحزاب الانتهازية سارعت للقبض على الفتات ودخلت في المماحكات الدستورية والقانونية!
وها هي السلطة منذ البداية تفصل الأحزاب عن المتظاهرين ثم تريد أن يكون المتظاهرون تنظيماً حتى تعزله هو الآخر، كما تقوم بإنهاك المتظاهرين في ميدان التحرير خاصة، وإنهاك الجمهور بتأزيم عيشه وتصعيد معاناته.
التجربة المصرية لم تملك طبقة طليعية قوية ذات منظمات سياسية ونقابية كما هو الحال في تونس، والطبقة الطليعية المصرية وهي الفئات الوسطى الشبابية ليست ذات قواعد نقابية وسياسية واسعة. ولهذا بدأت التجربة تدخل المساومات والتفتت، على ما يبدو في اليوم الثاني عشر منها.

صحيفة اخبار الخليج
7 فبراير 2011