المنشور

مصر: الثورة والتغيير (5)

كان يمكن للرئيس مبارك أن يخرجَ من السلطة بطريقةٍ راقيةٍ من خلال الخطابِ المؤثر الأخير الذي ألقاه في أول الشهر الحالي، فقد فتحَ بوابةَ إصلاحٍ في مناطق رئيسية في الحكم، تمثلُ حلقةَ انتقال داخل نظامٍ واحد، لكنها حلقة ضرورية لكي تتسلمها الأحزابُ المعارضة وتَعبرُ بها إلى نظامٍ مختلف، فمن دون هذين التسليم والتسلم تحدثُ هوةٌ من الفوضى، خاصةً ان الفترةَ المتبقية من رئاسته هي عدة أشهر قليلة.
كذلك فإن عودة الشرطة بشكل غير شكلها السابق وتعامل الجيش المتحضر خلال الأيام القليلة مع المتظاهرين، كل هذه كانت إجراءاتٍ واعدةً بخفوتِ الصراع السياسي الحاد بين الطرفين، لكن ما جرى بعد ذلك يوم 2، و3، فبراير حطم هذه القنطرةَ الهشةَ التي كان يمكن أن يحدثَ بها العبور بين الزمنين السياسيين المتضادين.
ففجأة برزتْ صورةٌ مخيفةٌ رهيبةٌ هي صعود(الحثالة)الاجتماعية إلى أعلى المسرح السياسي المتحضر تفرضُ شروطَها المتعسفة بالسكاكين والمطاوي والزجاجات الحارقة!
أقول (حثالة) لكونها استخدمتْ أساليبَ المجرمين لا أساليب السياسيين المجادلين والمناوئين، متجهة لضرب الرمز الجماهيري الرابض بقوة قرب حلق مؤسسة الرئاسة وهو الاعتصام الكبير الشجاع في ميدان التحرير، يمنعها من الحركة والمناورة وعدم التلاعب بمطالب الشعب.
هذا الانحدار المفاجئ في الهوة كشف تاريخية النظام العسكري خلال السنوات الثلاثين الأخيرة خاصة، أي كشف التناقض بين الشكل الحضاري المتوهج بالأصباغ والمظاهر وبين المضمون الغائر في الفساد، بين الأشكال الديمقراطية الزائفة وبين الدكتاتورية الباطنية، بين السياساتِ المهمة الواعدة بانتشار التنمية والصناعة والتقدم، وبين ما حصل من هيمنة قوى الفساد الحكومي حيث التحالف بين جماعات السلطة وجماعات المال، فيما مصر تغرق في الفقر والبطالة وأكبر شعب عربي غريب في وطنه ويضيع مهاجراً يبحث عن عمل وبلده مليء بالثروة.
لقد حدثت إنجازاتٌ كبيرةٌ ولا شك، وانتقلت مصر من نظام فقير إلى نظام أغنى وأكثر حداثة وتنمية وثقافة وعلاقات راقية مع دول العالم كافة، ولكن الهيمنة الحكومية الهائلة لم تسمحْ بكشفِ الأخطاء والإصلاح ومحاربة الفساد، والأدبيات المصرية مليئة بالفضائح في هذا المجال، بحيث ان أي خدمة تُؤدى لابد أن يكون وراءها منفعة للموظفين والحراس والشرطة الخ.
لقد تغلغلتْ الحثالةُ في عروق النظام؛ والكثير من الأنظمة في الحقيقة دمجتْ بين العصابات وقوى الحكم المالية المتنفذة، وكلما كانت الديمقراطيةُ واهيةً أو حتى غير عريقة على الطريقة الأمريكية، وتداخلتْ فيها مصالح كبرى الشركات بدوائر الحكم، استعانتْ بالمجرمين وأصحاب الثقافة الضحلة ولم تحتملْ العقول الكبيرة والأحزاب المبدئية، وهذا ما يؤدي عادةً إلى الاعتماد في لحظات الصراع الصعبة على مثل هذه الجماعات، وهي تقوم عادة بأعمالها القذرة فيما وراء الحجاب الاجتماعي، وفي الظلمات.
اعتمدت كثير من مظاهر الحياة الاجتماعية على(البلطجية) وهي مفردة مصرية خالصة، تكونت من الإبداع الاجرامي في الريف وأعمال السرقة والمتاجرة بالمخدرات، وهي كلها جوانب تفتحت في الاجرام العامي وقنواته السرية، التي تداخلت وتغلغلت بقنوات السلطة، بحسب هذا الغياب الطويل للبرلمان الحقيقي، والصحافة الحرة.
ورغم نفي قادة النظام المصري علاقتهم بأعمال هؤلاء البلطجية فإنهم استمروا في الاعتداء على المتظاهرين ومطاردة الصحفيين ودهس المعترضين، وقذف الحجارة وقتل المحتجين وإيذائهم، وبيّن ذلك كله اضطراب وضع الطبقة الحاكمة في مصر بشكل كلي.
إنه وضع ثوري بامتياز، فالطبقةُ الحاكمة عاجزةٌ عن الحكم، فيما الطبقة الشعبية المحكومة رافضة للعيش بالطريقة السابقة، لكن ليس ثمة أدوات سياسية واجتماعية قادرة على الحسم حتى هذه اللحظة(يوم 4 فبراير)، والأمر لا يتوقف على مغادرة الرئيس بل تسليم الطبقة الحاكمة الحكم لتحالف اجتماعي سياسي شعبي لايزال غامضاً وهشاً ومضطرباً.
الطبقة الحاكمة تصر على البقاء من خلال المتراس الأول وهو بقاء الرئيس، ثم بقاء نائبه، ومجلس الشعب المزور، وطرح التعديلات الدستورية من خلال هذا المجلس. وهو أمرٌ يعبر عن إصرارها على بقاء أملاكها ومواردها الكبيرة وستر أوضاع الفساد الهائلة.
كما أن القوى المعارضة مختلفة في البديل السياسي، حيث تختلف بين الإسقاط الفوري للرئاسة والنظام، أو الإسقاط المتدرج، الذي يسمح للطبقة الحاكمة بتعديل أوضاعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، من تغيير أملاكها وتهريبها، وجذب بعض المعترضين لدوائرها، وتغيير الحزب الوطني الديمقراطي وإعادة تجديده لمواجهة المرحلة الخالية مما يعني نشوء صراع اجتماعي مطول خلال السنة الحالية خاصة.
لقد عملت القوى الحاكمة بكل أشكال الصراع من قوة وتبدل في المؤسسة الحاكمة واستعانت بكل القوى البوليسية والعسكرية بمستوييها الظاهر والخفي، وبدلت في أدوات صراعها، بأشكال تتسم بالمهارة والدهاء، لكنها لم تستطع أن تهزم المد الشعبي الكاسح، الذي جعلته الطبقة الحاكمة يصل إلى مستوى عميق من الأزمة الاقتصادية والسياسية والمعيشية والفكرية والأخلاقية، فهو يتوجه لتغير البنية الاجتماعية وإعادة النظر فيها، وحتى الآن لم تستطع ادواته السياسية ووعيه أن تحدد البرنامج الدقيق في هذا، وأن يشكل سلطة منتخبة جديدة تأسيسية لنظام جديد وأن يتفق على رمز قيادي يدعو لهذه الجمعية التأسيسية البديل للنظام القديم.

صحيفة اخبار الخليج
6 فبراير 2011