المنشور

مصر.. الثورةُ والتغيير (4)

ترددت كلمات أساسية في فضاء الثورة المصرية الراهنة غدت هي شعارات تعبر عن الوعي الجديد النابض الصاعد الذي يريد أن يكون مؤسسات جديدة:
(نريد تغيير النظام)، (خبز، عدالة، إنسانية)، (كفاية) وغيرها كثير من الكلمات العامية الفصيحة البليغة.
شعارات عامة مرهفة بالشجن والألم والغضب، تقوم بشحن الناس ودفعهم إلى التراص والتجمع والتعبير الجماعي الساخن الهادر، وقد تاهت واندفعت في الشوارع والحارات الجانبية ثم تركزت في الشوارع الكبرى فالميادين ومقتربة من مراكز السلطة المحطمة أو المختبئة.
شعارات تضغط وتجمع وتحاصر النظامَ العسكري الذي يعود أكثر فأكثر إلى عسكريتهِ في المضمون الباطني الحقيقي، ويتظاهر بالاستجابة لمطالب الشعب ويلبسُ اللباسَ المدني الديمقراطي الزائف.
استطاعت هذه الشعارات البسيطة المتروكة للإبداع الشعبي اليومي والارتجال أن تعبئ الجماهير العادية وتحشدها وتوجهها، وخلال الأيام التاريخية فإن الجماهير التي كانت تتشاجر على النقل والعيش والسكن توحدت وتعاونت بشكل مثير، وهي ظاهرة معروفة في كل الثورات، فقد اكتشفت الجماهير مضمونَها العميق الإنساني، وأهدافها المشتركة في تغيير نظامٍ اجتماعي شردَها وغربها.
وكذلك تعمل من أجل نظام جديد يوسع قدراتها الوطنية وآفاقها الإنسانية، ويحترمها ويعمق معاشها وحريتها.
ولكن مثل كل ثورة تتشكل في نظام ذي علاقات رأسمالية، وهي في وطننا العربي متخلفة كذلك إضافة إلى أنها استغلالية بطبيعتها، تظهر الصراعات الاجتماعية بين الرأسماليين والعمال، بين المالكين والأجراء، بشكل أيديولوجي وبشكل سياسي، عبر تعدد الأحزاب المناضلة للتغيير، وتظهر شرائح من اليمين الديني المركز على الأخلاق والضمير والعودة للدين وكذلك الوسط كحزب الوفد الذي ينتقد بشكل مجرد عام غير دقيق خمسين سنة من الدكتاتورية، من دون درس تباينات هذه الدكتاتورية وجذورها، فيقدم خطاباً ليبراليا عاما، وهناك أحزاب جديدة من الفئات الوسطى تطرح المطالب العامة للجمهور من حرية وإنشاء سلطة ديمقراطية. وعموماً فإن هذه اللافتات المتباينة كثيراً تجعلنا نحذر من مستقبل تعامل هذه القوى وقيادتها لمصر مستقبلاً كذلك، ولابد لنا من تحليلها مستقبلاً ومراقبتها.
وقد انتقلتْ موجة الصراع في الشارع من الحدةِ والعنف إلى الهدوء والتداخل والصراع السلمي المتوتر، فالجيشُ فاجأ الجميعَ بحيادية موقفه، فهو لا يقمع الجمهور وكذلك لا يساعده في التخلص من النظام، تاركاً الفريقين في صراعهما السلمي المتناقض بين فريق حكومي يملك إمكانيات هائلة وفريق شعبي لا يملك سوى حناجره وأجساده المقاومة في الشارع وفي البرد والجوع.
ولكن الفريق الحكومي كان يواصل الهجوم عبر قطع خطوط اتصالات الجمهور وأدوات إعلامه العربية الخارجية، وقطع المواصلات وخاصة السكك الحديدية، وقطع الرواتب والأجور، وقطع الإمدادات الغذائية القادمة من الأرياف للمدن وتحويل مناطق الثورة إلى جزر معزولة عن بعضها البعض، وبالتالي تضييق الحصار على الجمهور المناضل وسط الجزر الصغيرة في المدن المليئة بالجمهور، حتى يتعب ويتساقط، ويتم كذلك تصعيد ثقافة اليأس والاحباط وتحريك الإذاعات والفضائيات لكي تنشر مناظر القلق والتراجع وأصوات التخاذل.
وواكب ذلك عملية سياسية تكتيكية تحاول سحب قوى كبيرة من الجمهور المناضل، ففجأة وبعد ثلاثين سنة يتذكر الرئيس أنه بحاجة إلى نائب، ويغير الوزارة (الفاشلة) محاولاً إنقاذ الرئاسة، ومغيراً الدستور الذي تحول إلى كلمات مفصلة على مصالح الرئيس، وطارحاً الحوار مع قوى المعارضة التي طردها من مجلس الشعب المزور، مواصلاً دور الهيمنة الكلية على المجتمع!
وبعد كل هذه الهبة الهائلة لم يفهم الرئيس الحدثَ التاريخي، وقام بعرض التاريخ المؤدلج من خلال وعيه، فكان النظام في رأيه يسير بشكل جيد، وظهرت (بغتة) تظاهرات شبابية محقة في بعض مطالبها، ثم تدخلت قوى مُغرضة وحركتها ووسعتها! إنه لا يرى أن النظامَ دخل نفق أزمة عميقة، وأن ملايين السكان تحتاج إلى إزاحة طبقة فاسدة سيطرت على المجتمع عقوداً، ومن دون هذه الإزاحة فإن المجتمع يختنق ويتفجر أكثر مما تفجر، وأن قيادته لم تكتشف هذه الأزمة العميقة بل واصلت تضخيمها، ثم عجزت في لحظة انفجارِها عن فهمها والاستجابة لمطالبها ووضع حد لنموها الخطير المدمر للبلد وسكانه ومصالحه ومستقبله.

صحيفة اخبار الخليج
5 فبراير 2011