المنشور

عن المكوث في الحكـم


 
لماذا لا يكتفي رؤساء جمهورياتنا العتيدة بما هو معمول به في بلدان العالم المتحضر، فلا يمكث الواحد منهم في الحكم أكثر من دورة انتخابية أو دورتين إذا قدر له الفوز في الثانية، ليغادر قصر الرئاسة مُعززاً مُكرماً، ينصرف بعدها لكتابة مذكراته وإلقاء المحاضرات وتقديم الاستشارات وقضاء أوقات لطيفة مع أحفاده على نحو ما يفعل ساسة العالم؟

لماذا يقرن هؤلاء مصير الأوطان بمصيرهم الشخصي، ويتصرفون كما لو أن هذه الأوطان ملك لهم، لا يغادروا مواقع القيادة فيها إلا بموتهم، بعد أن يكونوا هيأوا لأبنائهم فرص وراثتهم لا في الثروات التي جنوها من مال الشعب، وإنما في الحكم أيضاً.

لم أنجو بنفسي وأنا أقرأ ما نُشر عن الوضع الصحي للزعيم الإفريقي نيلسون مانديلا من حُرقة المقارنة بين سلوك هذا الزعيم الاستثنائي وبين سلوك رؤساء الجمهوريات في عالمنا العربي.

رغم طول سنوات السجن المؤبد التي قضاها مانديلا، فان مدة حكم بعض رؤساء الجمهوريات عندنا قد فاقتها عدداً، وحين خرج من الأسر لينجز الفصل الأخير من مسيرة تحرير بلاده من عار العنصرية، انتخب رئيساً للجمهورية بإجماع شعبي قلّ نظيره.

ولكن عند انتهاء الأمد الدستوري لولايته أصر على ألا يترشح ثانية، مع انه كان يملك من التفويض الشعبي ما يجعل منه رئيساً لبلاده مدى الحياة، فهو بالنسبة لشعب جنوب أفريقيا ليس مجرد زعيم، إنما هو رمز لملحمة النضال العنيد من أجل الحرية، التي كان هو على رأسها دافعاَ، في سبيل ذلك، الضريبة الباهظة من حريته وسعادته.

لنقارن سلوك مانديلا بسلوك رؤساء الجمهوريات في عالمنا العربي، الذين يُعدلون الدساتير مرة ومثنى وثلاثاً ورباعاً حتى يضمنوا بقائهم في مناصبهم، لا أطول مدة ممكنة فحسب، وإنما مدى الحياة.

ويضع هؤلاء شعوبهم أمام محك ما بعده محك، ولسان الحال يقول: أتحسبون حكم البلدان مزحة، فلو تركنا الحكم ستخرب البلدان ويضيع مستقبلها، كأن الأمهات في دنيا العرب كففن عن إنجاب الأذكياء ممن يمتلكون الاستعداد لأن يكونوا قادة لأوطانهم ومجتمعاتهم.

وينخرط في ترويج هذا التحدي ثلة من المنتفعين والمبخرين والمخبرين أيضاً، الذين لا يردهم رادع أخلاقي عن تزييف الوعي وبث الأوهام في الأذهان لترويض الناس على قبول ما لاتقبله  الفطرة السوية.

كم من الدماء والآلام والخراب والخيبات كانوا سيوفرها هؤلاء الزعماء لو أنهم تصرفوا بالمنطق السوي الذي يسمح للناس بحرية الاختيار كل بضع سنوات، ولو أنهم ركنوا إلى القاعدة السليمة بأن الطاقات الذهنية والبدنية للإنسان تتناقص مع الوقت، ولا يعود بإمكانه إدارة الأمور بالطاقة نفسها، وأن هناك مرحلة يجب أن يخلد فيها الى الراحة، وإن سبل المشاركة في الحياة العامة متعددة لمن يجد في نفسه القدرة على ذلك، ولا تنحصر في الإمساك بالسلطة وحدها.

لا تحتاج بلداننا العربية الى “الزعيم الضرورة” و”الزعيم الاستثنائي” و”القائد التاريخي” الذي يمكث على الصدور طوال حياته. نريد زعماء عاديين، مثلهم مثل بقية الناس، يمكثون في الحكم دورة أو دورتين، ويلقون، مبتسمين، بتحية الوداع لشعبهم، وهم ينصرفون الى مهامهم الجديدة في الحياة.