المنشور

طفح الكيل… بين قرطاج وحلم ايثاكا


نحاول استرجاع المشاهد العربية الساخنة خلال الأسابيع الأربعة الماضية، حيث كان العالم يودع الأنفاس الأخيرة من السنة الماضية بحالة من التمني والأسى في ذات الوقت، كانت تونس تخفي موعدها مع آمال السنة الجديدة بفرح بالغ يبدأ برحيل رأس النظام ليلاً هاربًا ليذكرنا بمقولة شكسبير في هذه اللحظة للملك ريتشارد الثالث المستعد للمقايضة في هذه اللحظة من اجل إنقاذ جلدته من غضب الشعب «مملكتي بحصان !» كان شكسبير رائعا في تصوير لحظة الارتعاش والارتباك لنهاية المأساة الطويلة.

في مثل هذه الظروف كان المشهد السوداني يودع جغرافيا وتاريخ من الحياة المشتركة لشعب واحد لم يعد الآن شعبًا واحدًا ولا دولة واحدة ليسدل الستار هناك على حكاية لا تخلو من الأمل والتراجيديا، فيما كان مشهد كنيسة الإسكندرية يحتضن بصمت قضيتها رائحة الابتهالات والترانيم والتسامح وأبخرة الموت والشظايا فيما راحت هدايا عيد الميلاد والسنة الجديدة تتمرغ برائحة الدم ليصبح الواقع المصري مركب من جانبين وبمفارقة عجيبة وايجابية الجانب الأول وحّـدֿ النسيج الاجتماعي إزاء تلك القنبلة وطرح الشارع أسئلة الغضب المتعددة والتي لم تخلُ أصابع الاتهام للسلطات المصرية بالتراخي الأمني مع أولئك المتشددين.

وفي أجواء ضبابية مرتبكة اختلطت السيناريوهات والأصوات المحتجة لتنتقل الحالة المصرية من أزمة الكنيسة وحقوق المسيحيين في مصر إلى حالة عامة للشعب المصري الذي يرزح تحت ظروف قاسية وشروط مجتمعية حبلى على كل الاحتمالات الجانب الآخر من المعضلة، فالوضع الاقتصادي السيئ للشرائح والطبقات الدنيا والفساد المالي والإداري يهيأ وضعا ثوريا قابلا للانفجار في أية لحظة خاصة بعد تلاحق الأحداث في تونس وتحول ظاهرة «التونسة» موضوعا قابل للتكرار بصيغ محلية في كل بلد محتقن بلغ حد الاختناق وطفح به الكيل.

هنا في بلاد النيل العظيم نستذكر عظمة ونبوءة الشعراء ومن ضمنهم شاعرنا العظيم أبي الطيب المتنبي حين قال «نامت نواطير مصر عن ثعالبها – فقد بشمن، وما تفنى العناقيد»، يضرب للإعراب عن التنديد بموقف المسؤولين عن الحكم لإفساحهم المجال أمام المخاتلين السفهاء للاستبداد بالشعب. فهل تكون مصر المرشحة الأخرى للانفجار أم إن اللحظة التاريخية لم تنضج بعد؟ لكل بلد خصوصيته ولكل شعب مكوناته ولكن المشترك دائما هي تلك القوانين الموضوعية لنضوج ما يسمى بالوضع الثوري لكي تحدث ثورة ويتضافر الذاتي مع الموضوعي في تلك اللحظة.

هذا المشهد لم يكن غائبا عن اليمن في نفس الأسابيع، فالنظام هناك يواجه حالة من الاحتقان المزمنة، فإلى جانب معارضات عدة بألوان مختلفة، غير أنها في نهاية المطاف، تلتقي جميعها على نقطة مركزية واحدة هو ضرورة تغيير النظام، ولن تجد لا التطمينات الأمريكية ولا تلك الخطابات المخيفة بفزاعة القاعدة وحدها، فتلك ورقة لم تعد تقنع الشعب للالتفاف مع النظام وتحصينه بإرادتها مقابل انفراجات شكلية وإصلاحات هشة لا تغني ولا تسمن من جوع !! لهذا يصبح الوضع في اليمن ومشهده الأخير إعلانا بالممكن والمحتمل طالما إن البراكين الخامدة قابلة للانفجار المفاجئ. ولكن ليس بالضرورة أن تتكرر التونسة بحذافيرها ولكنها بالإمكان أن تترك درسًا للتقليب والمذاكرة لدى الجانبين الحكومة اليمنية والمعارضة.

لا احد فينا اليوم يتمنى أن تتجاذب الشعوب مع الأنظمة لكي تسفك الدماء وتنتهي النتيجة بهروب أو تنحي الزعيم متأخرا، وإنما من الحكمة هو امتصاص الغضب وطفح الكيل بأسرع ما يمكن، فالمكابرة السياسية لم تخدم التاريخ ولكنها خدعت الأنظمة، فجميعها كانت تفضي في النهاية إلى السقوط المروع لكل طاغية مستبد ولكل نظام مستفرد متشح بأردية الفساد والأمن والقوة، بحثا عن شعب يقدم الطاعة المغموسة بخبز الذل ويصفق ليلا نهارا تحت شموع النفاق السياسي المطلق.

في هذه الأجواء كانت الغابة التونسية التي جف اخضرارها وماتت غصونها تستعد لبرومثيوس تونسي اسمه محمد البوعزيزي الذي لم يتحمل لا صفعة المرأة له ولا اهانة الوالي ورجاله بخنقه في قوت يومه ،فكان عود الثقاب وحده الإجابة النهائية للاحتجاج وكان جسده قربانا لتلك الغابة المشتعلة فيما كانت روحه تفيض في كل زاوية من زوايا تونس الحبلى بالتمرد وانطلاق لحظة الانتفاضة الشعبية التي أفضت إلى ثورة شعبية عجلت ضريبة الدم فيها وتعميد شبابها إلى لحظة الفرح العظمى وانتصار الهدف الذي حرك الماء الراكد في البركة التونسية لوقت طويل كاد أن يقتل في الشعب روح الأمل لولا إن عود الثقاب كانت تنتظره غابة صامتة كجذوة لم تنطفئ وظلت تحت الرماد في انتظار من ينفخ عليها بيده.

لا تنتصر الثورات إلا بوجود عناصرها المتكاملة، فالحافز كان البوعزيزي أما الأسباب فهي كثيرة تبدأ بالبطالة الطويلة التي تقود إلى حد الفقر المدقع، مرورا ببيروقراطية فاسدة حد النخاع وانتهاء بمستوطنة بوليسية ودولة متخندقة بتلك الهروات، تسلب الناس ابسط الأمور في التعبير والكلام فتكاد مفردة الكرامة تصبح حاضرة في النفوس الميتة «معذرة لغوغول» غير إن تلك النفوس الميتة تبقى من الداخل مشتعلة وحانقة، ففي لحظة الخلاص المقتربة تجدها صارت مستعدة للموت والرصاص في سبيل الحرية، حرية الإنسان وكرامته في وطنه وبين شعبه. الكيل قائم أما الطفح فهو بحاجة لمن يسكبه في ارض متأججة بالغضب والمعاناة من كل شيء.
 
وتذكرنا هذه اللحظة بقصيدة ايثاكا لشاعر الإسكندرية قسطنطين كافافيس «1863-1933» حيث يقول بقصيدة «ايثاكا» لقد منحتك ايثاكا الرحلة الجميلة. فما كنت تخرج إلى الطريق لولاها. وليس لديها أن تعطيك أكثر من ذلك. ولو وجدت ايثاكا فقيرة فهي لم تخدعك، وما دمت قد صرت على هذا القدر من الحكمة، ولك كل هذه الخبرة فلا بد انك قد فهمت ماذا تعني ايثاكا، وأي ايثاكا. وايثاكا هنا هي الهدف، أي هدف «بالمعنى الرمزي والواقعي».


الأيام   1 فبراير 2011