المنشور

العمال وتطوير الرأسمالية


لعل التجربة التونسية تعطينا مساراً لتطور الرأسمالية في العالم العربي بشكلٍ سلسٍ و”نقي”، فالجذورُ الفلاحية الواسعة وكثافة الفئات الأخرى فهذه جوانبٌ محدودة، ويعطينا التطور التونسي شغيلة عمالية واسعة وحداثة وحضورا سكانيا تحديثيا وشريحتين كبريين عامة وخاصة من الرأسمالية في صراعٍ وتعاون لتشكيل مجتمع الحداثة الذي هو بالضرورة ضمن التشكيلة الرأسمالية.

وهذا مختبرٌ علمي لمسائل التطور الاجتماعي لا نجدهُ بحثيا في موقع آخر، فلن تتشكل الاشتراكية إلا بصورة بعيدة، ويلزمنا في كل بلد في العالم الثالث تطوير الرأسمالية والصراع معها.

من الجوانب الرئيسية المهمة في تونس هو أن الرأسمالية الحكومية استغلتهم وطورتهم معاً، إن مجتمع الحداثة المنشود لدى حزب الاستقلال الدستوري، ونحن لا نتكلم هنا عن حفارِ قبورٍ بل عن قوةٍ وطنيةٍ صراعية، خلاقةٍ، هو مطورٌ للعمال، وقد جعلهم أكبر قوة اجتماعية مؤثرة بحراكها النضالي وبأصواتها الانتخابية.

لكنهم اعتبروا أداة، قوى اجتماعية مخفضة الأجور، ملحقة سياسيا بذلك الحزب، إلى أن بدأت تستقل مع الشرائح الوسطى والصغيرة في حراك متصارع متداخل.

وفي حين لدينا فئات وسطى مغمورة بفيوض النفط في الكويت لكن العمال جزءٌ من المتفرجين والباحثين عن الغنائم الاستهلاكية والمرتبطين بتقاليد بدوية. إن وضعهم الاجتماعي لم يهيئ لهم دورهم بنائيا في التحول الديمقراطي العميق.
أو مثل الفئات الوسطى اللبنانية لديهم فيض من المعرفة لكنهم مذيلون لإقطاعيات متخلفة مذهبية وتابعة لدولٍ خارجية كذلك.

والفئات الوسطى المصرية أكثر الفئات تحركاً من أجل الديمقراطية عربيا لكن مسيطر عليها من قبل آلة بيروقراطية عظمى وطبقة عمال متخلفة.

إن المسألة ليست مسألة انتحار وحرق، المسألة في وجود طبقة عمالية واعية ساندت الفئات الوسطى الديمقراطية وعملية التطور الاجتماعي بشكل طويل وافترقت عنها في محاور سياسية واجتماعية معينة، حين توجه هذه الفئات غالبية الفيوض النقدية لأهدافها وليس لتطوير البلد ككل وقواه البشرية وتقدمه المشترك.

المختبر التونسي واسع جغرافيا وبشريا، والتقدم المشترك يعني تطوير العملية الرأسمالية الوطنية بحيث تنمو جميع القوى بمقادير، تنصب في نسب التطور الرأسمالي المعين في كل حقبة، فالتشبع في السياحة والصناعات الخفيفة وإنتاج المواد الخام، وتحولات العملية الرأسمالية العالمية، وضرورة التجديد في إنتاج السلع، تفرض على المتابعين للشأن التونسي إحداث عملية تحول كبيرة في الاقتصاد، وهذا التحول لا يأتي من دون تبدل في شروط الإنتاج الراهن، وخاصة في القوى البشرية العاملة التي وقفت عند مستوى قديم متخلف.

وفيما لا تستطيع الطبقة العاملة اللبنانية أن تشارك حتى في إحداث السلم الأهلي وهزيمة المنظمات الطائفية المستولية على الوجود الكلي لهذا الشعب المغيب، يغدو العمال التونسيون في موقع مختلف، بسبب الطبيعة الوطنية الديمقراطية التي شكلها حزب الاستقلال الدستوري في عقود سابقة.

ثمة أهمية كبيرة لوجود برجوازية وطنية توحيدية فهو تراث وواقع يجب عدم نسيانهما، وبضرورة تطويرهما تأريخا نقديا، وواقعا تعاونيا صراعيا.

ومن هنا فإن انزلاق اليسار المتطرف مع القوى الدينية لضرب حزب الاستقلال الدستوري وهما قوتان هامشيتان ترفضان العقلانية وحكم القانون التحديثي لأنهما تمثلان قوى هامشية في المجتمع، يعبرُ عن توجيه المجتمع نحو التطرف والفوضى وبقاء المجتمع التقليدي وعدم تطوره لديمقراطية حديثة إلا عبر الجمل الحادة.

إنهما قوتا البرجوازية الصغيرة الفوضويتان، وفي زمن المشاعر والحدة وخداع بعض العمال تتمكنان من تخريب بعض جوانب التطور إن لم تفشلاه كله، إذا كانت الجماهير فاقدة للوعي.

والقطاع العام أو الرأسمالية الحكومية ضرورية مع مواجهة الفساد فيها، وبالتالي فإن شراكة تعاونية حقيقية على أسس القانون القابل للتطوير دائماً عبر المؤسسات التشريعية مطلوبة أكثر من أي وقت مضى.

ولكن هذه الجوانب الخداعية تسهل الأمر للقوى المحافظة القديمة ولقوى الجيش الطامحة للسلطة أن تستغل انفلات الأمن فتعيد الموال القديم نفسه.

أخبار الخليج 22 يناير 2011