المنشور

مفاهيم وأهداف إرهابية


لطالما حذر الخيرون من أبناء البلاد العربية من مغبة الصمت المتواطئ على الجرائم الإرهابية التي تنفذها تنظيمات متطرفة تناسخت وتكاثرت في عموم البلدان العربية، وراحت تنشر الفوضى والدمار وتثير الفتن والقلاقل في المجتمعات العربية، مستغلة مساحات حرية الحركة التي تنعم بها هنا وهناك .
 
ولطالما حذر الحريصون الجزعون على حال المجتمعات العربية من المخاطر المحدقة بالتساهل إزاء تمدد نفوذ الجماعات المتطرفة إلى كافة مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية وتطاولها على مصادر الاستقرار ومكونات المجتمعات العربية وعلى الثوابت التي تحكم علاقات الناس بعضها ببعض .
 
ولطالما بحّت أصوات هؤلاء الغيارى على أوطانهم من أن محاولات الجماعات المتطرفة لإشعال الفتنة الطائفية والحرب الأهلية بين سنة العراق وشيعته، سوف تتمادى وتتجاسر لتطاول ساحات عربية أخرى تستهدف إشعال حرائق طائفية ومذهبية متنقلة لإشاعة الفوضى والسيطرة على مقادير الأمور فيها .
 
وهكذا وبعد أن عاث المتطرفون تدميراً وقتلاً وتخريباً في العراق في محاولات مستميتة من أجل إشعال حرب أهلية بين طائفتيه الكبيرتين السنية والشيعية، من دون كلل أو يأس في تحقيق المراد، وذلك بمواصلة إطلاق الموجات الإرهابية، موجة وراء موجة، باستخدام القنابل البشرية المضحوك عليها بوعد الوصال مع نور العين  بعد هذا الجهد الإجرامي الجبار الذي تأكد للإرهابيين أو بالأحرى لكبار الرؤوس التي تحركهم أن مسعاهم ومخططهم هذا قد باء بالفشل، فقد اهتدوا إلى خيار أكثر إجرامية وأفدح خطراً على مقدرات ووجود المجتمعات العربية، وهو العمل بالزخم نفسه والعزيمة على افتعال حرب إبادة وتطهير ضد أبناء الطوائف المسيحية في مناطق عربية منتخبة توفر ظروفها الصعبة وأوضاعها الحساسة بيئة ملائمة لإنفاذ وتمرير مخططها الإجرامي، فكانت مصر هي الهدف الذي اختاره الإرهابيون لتوجيه ضربتهم الكبرى في مخططهم الرامي إلى إحداث شقاق وصدامات مسيحية إسلامية توطئة لإشعال الحرب الواسعة بين أبناء الديانتين الكريمتين في العالم العربي . حيث شن الإرهابيون ليلة عيد الميلاد المجيد يوم الجمعة 31 ديسمبر/ كانون الأول 2010 هجوماً إرهابياً بواسطة قنبلة بشرية مفخخة ضد كنيسة القديسين الواقعة في منطقة سيدي بشر والتي كانت تغص وقتها بالمصلين الذين وجدوا لإحياء الاحتفال برأس السنة الميلادية، ما أدى إلى وقوع عشرات القتلى والمصلين قدرتهم وزارة الصحة المصرية بنحو 25 قتيلاً ونحو 79 جريحاً .
 
لقد أراد الإرهابيون ومن يقف وراءهم بالمال والسلاح والتسهيلات الإعلامية والحملات الدعوية عبر المنابر الرسمية وغير الرسمية أن يشعلوا فتنة بين المسيحيين والمسلمين وأن يطلقوا موجة تهجير للمسيحيين إلى خارج أوطانهم العربية لتفريغ العالم العربي من أحد أهم مكونات تنوعه، وهي جريمة “ترانسفير” بكل ما للكلمة من معنى ذي صلة بسياسات التطهير العرقي .
 
ولكن سبحان الله . . فلقد خيب الشعب المصري آمالهم وأثبت أنه شعب التحديات التي تحركه سليقته وفطرته الطيبة التي جبل عليها، فكانت ردته الفورية التلقائية على الجريمة في منتهى الروعة بتجسدها في ذلك الموقف الإنساني النبيل الذي أظهرته الجموع الغفيرة من الناس الذين هبوا مسرعين لنجدة اخوانهم المسيحيين وإظهار تعاطفهم وتضامنهم القوي المقرون بالفعل والمتمثل في المبادرات العفوية غير الموجهة لعمل سلاسل بشرية لحماية دور العبادة المسيحية والمشاركة في مراسيم العزاء والاحتجاجات المنددة بالمجزرة الإرهابية .
 
إنما، وكي لا تأخذنا العاطفة بعيداً عن لب المشكلة التي نعانيها ها هنا، علينا بدءاً أن نعترف بأن هذه الجريمة الإرهابية الجديدة والجرائم الإرهابية الأخرى التي سبقتها ليست بعيدة عن المناخ الملوث الذي شجع عليها، بل وحرض على ارتكابها .
 
هذا فضلاً عن تحويل دور العبادة من جوامع ومساجد وتحويل مقارها وزواياها إلى إصدار صكوك التقوى والبراءة والتكفير، في تضاد صارخ وسلب ساطع في رابعة النهار لولاية القضاء الذي ينظم العلاقات المجتمعية .
 
بهذا المعنى فإنه ما لم يتم وضع حد نهائي لهذه الازدواجية الغريبة في هيكلية ووظائف الوضع المؤسسي الراهن والمستجد لكيان الدولة العربية الملتبسة والمتشاكلة بين دولة مدنية تستمد مشروعيتها من عضويتها في النظام الدولي المعاصر وأخرى دينية مستنبتة قسراً تحاول بشتى السبل الانقضاض على مقاليد الأمور واختطافها خطفاً، فإن الأمور ستسير من سيئ إلى أسوأ .