المنشور

انتصر الشعب ولم يسقط النظام


بعيداً، أو حتى قريباً، من مشاعرنا الفياضة ابتهاجاً بانتفاضة الشعب التونسي الذي أعاد الأمل الى النفوس، حين استطاع أن يزيح رئيس الدولة في انتفاضة شعبية، علينا التوقف ملياً أمام التوازن الدقيق الناشئ هناك بعد الإطاحة بالرئيس، وهو توازن ما كان سيتهيأ لولا الموقف التاريخي الذي يحسب لقيادة الجيش التي رفضت الانخراط في قمع المتظاهرين، وربما تكون ضغطت في اتجاه إاقصاء الرئيس المخلوع، تجنيباً للبلد المزيد من الضحايا واراقة الدماء.

فما حدث بالضبط هو سقوط رأس النظام والحلقة العائلية المحيطة به، أما النظام السياسي بأجهزته الرئيسية الضاربة فما زال ممسكاً بمفاصل الوضع في البلاد، وبهذا المعنى فان ما تحقق على أهميته يمكن اعتباره نصف انتصار، او مدخلاً للانتصار في اتجاه إرساء الديمقراطية في البلاد ووضع حد للفساد والاستحواذ على المال العام.

في البلدان النامية، وبينها بلداننا العربية بالطبع، فان الدولة تتماهى في النظام السياسي، فيصبح هو الدولة، لذلك ما أن ينهار هذا النظام بكافة مؤسساته، حتى تنهار الدولة ولو الى حين، وفي حالات معينة قد لا تعود الدولة إلى ما كانت عليه من وحدة ومهابة، وما أكثر الدول العربية التي انهارت أو تفككت بانهيار أنظمتها السياسية، مع تأكيدنا على مسؤولية هذه الأنظمة عن هذا المصير، ببطشها وجشعها.

اللحظة الراهنة التي تعيشها تونس اذا ما استمرت وجرى العمل المسؤول على توجيهها في المسارات الأكثر أمكناً وحكمة هي لحظة تحمل الكثير من الايجابيات، فمفاصل الدولة متماسكة رغم خلع الرئيس وبطانة الفساد من حوله، ولهذا الأمر عدة وجوه، بينها الايجابي وبينها ما يمكن أن يدعو للقلق.

فإذا ما استطاعت تونس بقواها الحية ومجتمعها المدني أن تُحول هذه اللحظة الى انعطافة في اتجاه دمقرطة الدولة وأجهزتها، وإعادة بناء أجهزة الأمن وتأهيلها بمبادىء احترام حقوق الإنسان، وإرساء مداميك دولة القانون والمؤسسات تكون ضمنت لنفسها المستقبل الذي من أجله خرج التونسيون والتونسيات الى الشارع في انتفاضتهم.

وهذا المستقبل لا يمكن، ولا يجب، أن يشكل قطعاً مع ميراث من الايجابيات والمكاسب التي أرساها الحبيب بورقيبة في مرحلة ما بعد الاستقلال، خاصة على صعيد حرية العمل النقابي وخدمات التعليم والثقافة وحقوق المرأة، بالشكل الذي جعل تونس متميزة ومتقدمة في الكثير من المجالات على نظيراتها لا في المغرب العربي وحده وإنما في العالم العربي إجمالاً.

على مفترق الطرق هذه ، إذاً، تقف تونس: إما المضي في اتجاه تحويل ثورة الياسمين إلى منعطف في التاريخ السياسي للبلد باتجاه الديمقراطية، مع ما يتطلبه ذلك من تنازلات جوهرية على المؤسسات الممسكة بالوضع اليوم أن تقدمها، بالإقلاع عن نهج الاستبداد الذي اندلعت الانتفاضة ضده، وصون ما في البلاد من مكاسب اجتماعية، أو تهيئة الظروف مجدداً لظهور” بن علي ” جديد في حلة جديدة.
بوسع الشعب التونسي الذي أدهش العالم خلال الأسابيع القليلة الماضية أن يَحول دون هذا السيناريو الأخير، ويدفع بالبلاد نحو آفاق الحرية والعدالة الاجتماعية اللتين ينشدهما.