المنشور

نبوءة أبي القاسم الشابي


مَن من العرب لا يحفظ عن ظهر قلب بيتي الشعر الشهيرين في قصيدة الشاعر الكبير أبو القاسم الشابي: «ارادة الحياة»، اللذان يبدآن بالجملة الخالدة: إذا الشعب يوما أراد الحياة، وبالمناسبة فان هذين البيتين غديا جزءًا من النشيد الوطني التونسي الذي وضع بعد الاستقلال.

هل كانت المصادفة وحدها وراء كون أبي القاسم الشابي تونسياً، هل كان يهجس في قصيدته تلك بالوعود التي تنتظر بلاده الرائعة تونس، أم أن كان يبذر نبتة الأمل لا في قلوب التونسيين وحدهم، وانما في قلوب كل الشعوب بأن ارادة الشعب لا يمكن أن تنهزم.

لا يحضرني الآن أين قرأت عن نتائج استطلاع قامت به إحدى الوسائل الاعلامية، لعلها إذاعة او صحيفة، حول لأيهما الأولوية عند المواطن العربي: أللخبز أم للحرية؟

الاستطلاع شمل مجتمعات عربية متفاوتة من حيث المستوى المعيشي، فتفاوتت الردود بين افراد المجتمعات التي تعاني اكثر من غيرها من الضوائق الحياتية، وبين افراد المجتمعات التي تنعم بمستوى معيشي معقول.

ففيما مال أفراد الفئة الأولى للتأكيد على أهمية لقمة العيش، باعتبارها الحاجة الأكثر إلحاحاً، أظهر أفراد الفئة الثانية ميلاً أكبر للمطالبة بالحرية والمشاركة السياسية، مع أن الجميع اتفقوا على أهمية الأمرين معاً: الرغيف والحرية، بل أن بعضهم ذهب الى القول انهما متلازمان، فلا معنى للحرية مع الفقر، ولا معنى للغنى دون حرية.

انتفاضة تونس تدفع بنقاشٍ مثل هذا الى الصدارة، فالمواطن العربي الذي رُوض طويلاً على الصبر، لا يخرج الى الشارع محتجاً الا تحت ضغط الحاجة القاهرة، حين تعييه السُبل عن تأمين لقمة عيشه، ويشعر بأن كافة الأبواب قد سُدت في وجهه، فلا يجد بداً من أن يخرج مطالباً برغيف الخبز له ولأطفاله.

المواطن لا يخرج الى الشارع شاهراً قبضته صارخاً بأعلى صوته الا حين لا يجد ما يأكله، والا فما الذي يحمل مواطناً بسيطاً مثل الشهيد التونسي محمد البوعزيزي على أن يُحرق نفسه احتجاجاً على الجوع والبطالة منذ نحو شهر في مدينة سيدي بوزيد؟

فجذوة الرفض حتى وإن توارى لهبها، تبدو عصية على الانطفاء، لأن ما في هذا العالم الجائر من مظالم كفيل بإشعال أوارها من جديد، وربما بقوة غير مسبوقة، والاستخفاف بمصالح الناس، وأرزاقها، والامعان في الاستحواذ على الثروات، وحرمان مستحقيها منها، لا يمكن أن ينجم عنه الاستقرار والرخاء، اللذان لا يمكن تأمينهما الا عبر تكريس ثقافة وسلوك المساءلة التي يلزمها الحرية التي تصونها، فيضمن من يقوم بالمساءلة انه سيعود الى بيته سالماً ينام قرير العين.

وفي عالم اليوم فان المساءلة المقصودة لا تتأمن الا من خلال سلطات رقابية مسموعة الكلمة، مثل البرلمانات ذات الصلاحية ومؤسسات المجتمع المدني الفاعلة والصحافة المستقلة، فلا يمكن النظر إلى الفقر الا بوصفه مضاداً للديمقراطية، فلا يمكن لهامش من الحريات العامة، على أهمية ذلك، أن يغني عن الديمقراطية الاجتماعية، أي ديمقراطية العدالة في توزيع الثروات.

والسبيل الى ذلك واضح: الإصغاء الى أصوات الناس الموجوعة وهي لا تطالب بأكثر من لقمة عيش كريمة، تأمينها ليس مستحيلاً، لو أعيد النظر في الطريقة التي توزع بها الثروات وتدار بها أمور الأوطان.