المنشور

شمال السودان يهرب للأمام


نعلم أن لويس مورينو أوكامبو رئيس الادعاء العام في المحكمة الجنائية الدولية ليس بذلك الرجل الشجاع الذي لا يخاف في قول الحقيقة والإتيان بفعلها لومة لائم، وإنما هو امعة تساق حيث يشتهي سائسها، وإنه لو كان رجل موقف بحق لكان طالب برأس “إسرائيل” ولو مرة واحدة في إحدى تجليات جبروتها وطغيانها، وهي ترتكب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية حسب تصنيفات المنظمات الدولية وحسب التقارير الأممية الموثقة بما فيها تقرير الوكالات المتفرعة عن الأمم المتحدة .
 
وندرك استناداً، على الأقل، إلى الوثيقة التي نشرها موقع “ويكيليكس” أن استهدافه وملاحقته قضائياً للرئيس السوداني عمر حسن البشير، فيهما الكثير من الكيدية أكثر منه بحثاً عن عدالة مطلوبة . فلقد نسب الموقع إلى أوكامبو قوله في إحدى مراسلاته مع وزارة الخارجية الأمريكية إن الرئيس السوداني قد سرق 9 مليارات دولار من الإيرادات النفطية لبلاده وأودعها في “بنك لويدز” البريطاني وبنوك أخرى، وإن أوكامبو أكد للأمريكيين في رسالته تلك على ضرورة التركيز على هذه الحادثة لتعزيز شرعية محاكمة البشير وتأليب الشعب السوداني ضده . وبعيداً عن صحة أو فبركة هذا الاتهام (بنك لويدز البريطاني نفى بالمناسبة أن يكون لديه حساب مصرفي للرئيس السوداني)، فإن هذه الوثيقة التي سرّبها موقع “ويكيليكس” تدين أوكامبو أكثر مما تدين البشير . فالوثيقة تشير إلى أن أوكامبو يراسل ويرفع تقاريره إلى الأمريكيين، وأنه ينسق معهم في تدبير وفبركة أية أدلة يمكن أن تساعده والأمريكيين في الدعوة التي حركها ضد الرئيس البشير، مع أن مرجعيته هي المحكمة الجنائية الدولية .
 
كل هذا ندركه، وندرك أيضاً أن نفط الجنوب السوداني ليس بعيداً البتة عن أطماع وصراع الجبابرة “الكبار” . ولكن كل هذا “كوم” ودور النظام السوداني “كوم تاني”، كما يذهب القول الدارج في بلاد النيلين .
 
فليس مُسَوغاً ولا مُبَرراً، والحال هذه، أن نقفز إلى حاضنة ثقافة الفزعة القومية العروبية والدينية للتستر على الأخطاء الفادحة التي ارتكبها نظام الحكم في السودان، وتقديم الغطاء السياسي لممارساته التي أفضت إلى تلكم النتائج الكارثية التي نعرفها .
 
هي ليست مجرد أخطاء من ذلك النوع الذي يمكن تداركه وتدارك نتائجه، وإنما هي تتجاوز مفردة الأخطاء الملطفة نفسها، أخطاء من وزن تشظي كيان الدولة بخسارة السودان لجنوبه، بكل ما يمثله هذا الانفصال من خسارة جيوسياسية استراتيجية وثروات نفطية .
 
والأدهى من ذلك، أن الرئيس البشير لا يريد الاكتفاء بهذا والاتعاظ من دروسه، فقد توعد بتشديد تطبيق الشريعة الإسلامية في الشمال فور انفصال الجنوب، وذلك من خلال إحداث تغييرات دستورية سريعة لجعل الإسلام الدين الرسمي ومصدر التشريع الوحيد، وذهابه إلى حد القول إنه لن يكون هناك مجال للحديث بعد الانفصال عن تنوع عرقي وثقافي في ما تبقى من السودان، وهو ما سيطلق بؤرة توتر بين الجماعات العرقية المختلفة التي تربو على 600 جماعة عرقية يشكو الكثير منها من سيطرة وهيمنة النخبة العربية على البلاد .
 
وإذا ما أضفنا إلى ذلك جبهة الحرب الأخرى المستعرة بين الجيش النظامي السوداني والجماعات المسلحة في إقليم دارفور، والتي ستتشجع بنجاح الجنوبيين في الانفصال عن الوطن الأم لتزيد ضغوطها العسكرية على النظام في الخرطوم .
 
خطاب الرئيس البشير في جوبا عاصمة الجنوب السوداني يوم الثلاثاء الرابع من يناير/ كانون الثاني ،2011 يضج بتناقاضت صارخة تشي بمآل التوجه المأساوي الذي ينوي اقتفاءه في الشمال . فهو في الوقت الذي وجه فيه رسالة سلام وتسامح إزاء حق الجنوبيين في تقرير مصيرهم واستقلالهم، فإنه سوف يستدير لفرض أحكام الشريعة الإسلامية على الشماليين، مع أن فرض الشريعة كان أحد الأسباب الأساسية التي حدت بالجنوبيين للمطالبة بالاستقلال والعمل على انتزاعه .
 
إنه بلا شك مآل محزن جداً للسودان ولشعبه الشقيق، بما يمثله هذا المآل من نذر شؤم طالعنا بها العام الجديد . وهو مآل محتم على من يفكر في أن بإمكانه إهدار المكون الإنساني في علاقات البشر بعضهم بعضاً، لمجرد تنطعه واستنفاره للفزعات العصبية من قومية أو دينية أو نحوها .