المنشور

مذاهب تتباين وتتكامل


ليست المذاهبُ هي التي أوجدت الواقع، الواقعُ هو الذي أوجد المذاهب.

في خروجِ العربِ المسلمين من الجزيرة العربية للعالمِ الفسيحِ واجهتْ إداراتِهم ونصوصَهم الدينيةَ أوضاعُ البلدانِ المختلفة التي دخلوا فيها.

كان الانقسامُ متأصلا في تلك البلدان المفتوحة بين البدو والحضر، وبين أهلِ الباديةِ وأهلِ الزراعة.
انقسامٌ تاريخي موضوعي صار له قرون، ناشئ من التكوين الاقتصادي وجغرافية الأرض ذات الأنهار المحدودة الكبرى وبين الصحارى الشاسعة.

فيضُ الثروة من جهة وشحها من جهة أخرى، زراعةٌ غنيةٌ وصحراء ضارية، ولّد التناقضَ الكبير في التاريخ.
فكانت المدنُ القليلةُ والقرى في مجابهةٍ دائمة مع أهلِ القفار، وحين جاءَ العربُ المسلمون كانوا أهلَ قفارٍ وصحارى، وواصلوا نموَّ الحضارةِ في شكلٍ لم يسبقْ له مثيل، أي إنتاج ديمقراطية شعبية لم تصمدْ طويلاً لتنامي الدكتاتوريات العريقة داخلهم وخارجهم، أي ظهر استبدادُهم الداخلي عبر الاحتكاك بشموليات عريقة في الشمال والبلدان المفتوحة، ومن صعود القوى الاجتماعية التي ارتفعتْ مع مداخيل الفتوح.

كان زوالُ النظامِ المساواتي السياسي الوامض عودةً لتقاليد الشرق الاستبدادي القديم، وكان هذا لا بد أن يظهرَ في أفكارِهم وثقافتهم، بل في صميم تفسيرهم للدين.

حين ورثوا الحضارات القديمة، وأفكارَها وبعضَ شعائرِها، كيفوها بمصالحهم وتاريخهم الخاص.
الانقسام التاريخي الطويل بين أهل البادية وأهل الزراعة، صار انقساماً بين أهل الحكم وأهل الفلح، بين القبائل المتسيدة وجماعات الأرض.

وبتعابير القدماء إنهم انقسموا بين أهل بيوت المدر وأهل بيوت الشعر، بين أهل المدن وأهل القرى.
وقد تصور كل مذهبٍ أنه الحق، والمذاهب الأخرى هي غير الحق، من دون أن يدركوا أنهم خريطةٌ ملونةٌ للحياة الاجتماعية وتعددها، وأنهم فسيفساءُ العرب والمسلمين واخوتهم من الأديان الأخرى كذلك في ظروف متضادة متحولة أبداً.

فهم يتصارعون بشدة في زمن ويتوحدون بقوة في زمن آخر، ليس ذلك يجري سوى لأنهم جماعات متداخلة متعاضدة متناقضة حيناً في بنية اجتماعية واحدة سائرة للنمو أبداً عبر صراعاتها وعبر تنامي وحدتها وعملها.

حين ينمو في العالم العربي مذهبُ أهلِ المدن والسيطرة والتحكم يصيرُ ذلك توحيداً وترابطاً لوطن مهدد أو متوجه للفتوح، وهنا لا تنفع مسالمةُ أهلِ الزراعة، وطرق الصوفية، ومن ضربك على خدك الإيمن أدرْ له خدَك الأيسر، بل تغدو القوةُ وسيلةً للتوحد، وتشكيل النظام العربي، ولكن القوة المتجبرة والاستغلال الفظ لجمهورِ الزراعةِ والحرف والتجار، تغدو مُفكِّكةً للبلد الواحد، والملة المُجمِعة، والمذهبُ المعارضُ يغذي عقلانيةَ المذهبِ الحاكم، بإعادتهِ للصوابِ وعدم التجبر وفهم آلام الناس.

وحين يجمحُ المذهبُ المعارضُ ويصيرُ هدماً وتفكيكاً يحتاجُ إلى من يعيدهُ للصواب، لأن خسائرَ تمردهِ تصيرُ أفدحُ من الظلم، وهكذا تجري وحدةُ الأضدادِ الدينية والاجتماعية، وما يربحهُ جيلٌ يخسرهُ جيلٌ آخر، وما تعانيه أجيالٌ تصلحهُ أجيالٌ أخرى.

والوعي المحدودُ لأجيالٍ غارقةٍ في الغرور الاجتماعي، والقراءة الحَرفية للنصوصِ الدينية، مع العصا الضاربة على أي قراءات أخرى، وأي حركة مستقلة من الأعضاء الباحثة عن الحياة والحرية العضوية، يصيرُ وعياً غامضاً ضائعاً في الوجود، مُلتبساً، لأنه وليد نشأة الحرية الضعيفة في الاستبداد الكبير العنيف.

المذهبُ المسيطر المتحكم والمذهب المعارض، وتصوراتُ أهلِ المدن وأهل البادية، أهل الحكم وأهل الزراعة، تعبرُ عن زمن اجتماعي تاريخي ذي حقب وألوان، والزمن الاجتماعي يتطور، ولن تبقى أبداً التقسيماتُ القديمة، وثنائية الإنتاج الزراعي والإنتاج الحرفي، وأهل الثغور وأهل الريف، بل سيظهرُ الإنتاجُ الصناعي التوحيدي، حينئذ سيحتاجُ أهلُ الدين الواحد إلى بعضهم بعضا، ويكتشفون وحدتَهم في انقسامهم، وسيرون أن الدولة الدينية المذهبية قاصرة عن لم شملهم، وأنهم أكبر من الفسيفساء الصغيرة المفرقة.

ليس الواقع هو الذي يغيرُ المذاهبَ فقط بل ان المذاهبَ تغيرُ الواقعَ كذلك.
 
أخبار الخليج 9 يناير 2011