المنشور

الفئات الهامشية (2/3)


أشباح تجوب أوروبا
 
لم تكن أوروبا المعاصرة والجميلة والنظيفة في تلك المرحلة التي انبثق فيها هذا المصطلح النابع من حقيقة تلك الإفرازات الاجتماعية، حيث تعرف علم الاجتماع على تلك الشريحة ووصفها لأول مرة من كتابات كارل ماركس، وباتت تستخدم في علم الاجتماع بالرغم من المتغيرات الكثيرة خلال القرون الثلاثة أو الأربعة على تنوع وزيادة تلك الفئات الهامشية والمهمشون اجتماعيا وثقافيا، وقد وردت لأول مرة تلك التصنيفات والإشارات للومبن بروليتاريا في كتاب «لودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية» سنة 1845 لانجلز ثم تكررت في كتاب «الثامن عشر من برومير ـ لويس بونابرت» والصادر سنة 1852.
 
هؤلاء المحتالون والنصابيون والمتشردون ساهموا في الانقلابات الاجتماعية ودعموا العسكر البونابرتيين وباتوا القوة المضادة للثورة، حيث لم يكن لهم أي دور حيوي وكانوا خارج نظام العمل المأجور. وقد أشار ماركس في مؤلفه الثامن عشر من برومير «حول استخدام نابليون للحثالة والغجر في انقلاب العاشر من ديسمبر في الجمعية السرية بقوله: كان هناك متشردون وجنود مسرحون وزبائن سجون مطلقو السراح وهاربون من الأشغال الشاقة ونصابون ومشعوذون ومتسكعون ونشالون ونساخون وضاربو أرغن وجماعو اسمال وسنانو سكاكين ولحامو معادن ومتسولون ـ وباختصار كل هذا الجمهور السائب، المتنوع، غير المحدد الذي تدفعه الظروف هنا وهناك والذي يسميه الفرنسيون (لا بوهيم). من هذه العناصر القريبة منه كون بونابرت نواة جمعية العاشر من كانون الأول» وقد أضاف ماركس أيضا العاهرات والقوادون والشحاذون.
 
فهل نحن نبتعد اليوم عن تلك الأنماط في بلدان تشوبها الفوضى والحروب والبطالة وانعدام القانون وتسيبه عن فرز تلك الفئات الهامشية والمهمشة، بقدر ما نجدها اكثر اتساعا وتنوعا وثراء في المهن وفي أشكال النصب والاحتيال والجريمة، واستخدام فن المراوغة والابتزاز ووسائل الفساد والرشوة للموظفين الصغار في أجهزة البلديات والحكومة.

انهم أشباح ما عادوا يجوبون أوروبا وحدها وحسب، بل وفي كل المجتمعات النامية والمتطورة دون استثناء، تقل أو تزيد كميتهم ونوعيتهم في الشوارع الخلفية والمظلمة للمدن. انهم ضد القانون بهذا القدر أو ذاك، ويدركون عن وعي فعلتهم، ولكنهم يواصلون «قيم وسلوك الشارع الخلفي» حينا والأمكنة المزدحمة حينا آخر، بل ولا يهتمون في عز النهار بكل الأخطار، فهم مغامرون حتى النهاية، عدوهم البوليس وصديقهم الفاسدون في تلك المؤسسات.
 
ومع مرور الوقت يشكل هذا الجيش الصغير المتنوع «نقابته السرية بكل مراتبها الوظيفية، من جابي ضرائب الشوارع حتى مرتبة العراب أو «الأخ الأكبر» حامي المشردين والفقراء من بؤسهم . هكذا سنجد لعبة الفئات الهامشية، والتي يشكل منهم طابور عريض من البسطاء والشرفاء الساعين للعيش بكرامة من اجل إعالة عائلاتهم، إلى جانب ذلك الطابور الجديد من حفنة المجرمين والمشردين، الذين مع مرور الوقت يعتادون حياة الصعلكة والأعمال الملتوية، فدخلها اكثر مغريا ومرتفعا ومجزيا وفق منظورهم، فهم لا يتعاطون مهنا لا تسمن وتغني من جوع، وإنما يتخذونها غطاء للمهن السرية وغير الشرعية. انهم بهذا الشكل أو ذاك فئة متقنعة بأقنعة ووجوه عدة وظيفتها الشكلية مرئية ووظيفتها الحقيقية والفعلية مهمة في الظل والعتمة.

لا ترتبط مجموعة الفئات الهامشية بعمل محدد، فبعض المهن والأعمال سهلة ولا تحتاج خبرة ومهارة، إنها مجرد خدمات يدوية، قليلة التكلفة والحركة، مهن خمولة وغير منتجة اللهم إنتاجيتها تلك الخدمات الطفيلية النابعة من تركيبة المجتمع وتطوره واحتياجاته، ولكن بالمقابل هناك بعض الفئات الهامشية لديها إمكانيات ومهارات مهنية، كسبتها بالوراثة العائلية أو نتيجة عملها في ورشة أو مؤسسة ما، غير أن لظروف معينة وجدت نفسها عاطلة عن العمل، وإذا ما تحدثنا على عجالة عن بعض تلك المهن الهامشية، على سبيل الحصر، فإن بائع السلع والبضائع المتنقل والجوال، والذي يطرق الأبواب ويفترش بضاعته في الطرقات، يتناسب كثيرا مع نمط من المجتمعات المحافظة والريفية والأحياء الشعبية، حيث النساء ربات البيوت يرغبن في شراء حاجيات ربما لا تسمح الظروف باقتنائها أو الحصول عليها، فرب الأسرة يتصرف حسب هواه بينما للنساء أهوائهن ومزاجهن.
 
هكذا يدغدغ البائع الجوال عاطفة النساء ويقيم معهن علاقات مودة ويتفهم ظروفهن بما في ذلك بيعهن بالسلف، فبعض الأزواج لا يتركون لزوجاتهم أكثر من مصاريف مقننة ومحددة. ألا تخلق تلك العلاقة نمطا من الكذب والثقة والمراوغة بين ذلك الثالوث الغريب، البائع والمشتري من جهة وبين الزوجة وزوجها من جهة أخرى ؟! المهم تتعلم الزوجة آلية جديدة في حياتها هو انتظار البائع يوميا، فهي تختزن صوته وساعات حضوره، وأحيانا لطفه النسوي الاستثنائي.
 
 
الأيام   10 يناير 2011