المنشور

لكل بلدٍ خرابه الخاص


ما يجري في دولة الكويت الشقيقة محير وغريب لكنه ليس غامضاً، أو استثنائياً مطلقاً.
ليست هناك مؤامرةٌ محبوكة كلية، لكن هناك أطرافاً تستثمر التناقضات العربية وتجعل بعض الدول العربية في حالاتٍ من الذوبان المفككِ السياسي العاجز عن الفعلِ النهضوي التوحيدي.

في الكويت ثمة قوى تتكرسُ في المجلس المنتخب عاجزةً عن تشكيل سياسة ديمقراطية نضالية وطنية عصرية توحيدية للشعب، ولا تجد في سبيل تجديد ذاتها في المؤسسة المنتخبة والمجتمع سوى استثمار ما هو سطحي سواءً بدغدغةِ عواطف الشعب ومصالحه المباشرة بإزالة فوائد ديونه الاستهلاكية، ولو ضحت في سبيل ذلك بالنظام الاقتصادي بمجمله، أو بمصارعة الحكم بشكل طفولي عبر عقودٍ وتعطيل مؤسسته الدستورية وإيجاد معارك جانبية مفتعلة فقط لأنها لا تملك ثقافةً عصرية ديمقراطية.

إن تعطيلَ المؤسسات الدستورية حلاً أو بمعارك وقيام حرب أعصاب سياسية أثخنتْ المجتمعَ بالجراح خلال عقود هو تعبيرٌ عن مراهقةٍ مزمنة، نظراً لعدم قدرة القوى الاجتماعية على تكوين ثقافة ديمقراطية تنويرية حديثة، واستمرار المذهبية السياسية المحافظة في الهيمنة على العقول السياسية الكويتية.

بعد ثراء تجاري طويل وتكون فئات وسطى واسعة لم تقدرْ الكويتُ على إنتاجِ طبقةٍ وسطى حرةٍ ديمقراطيةٍ علمانية، فالفوائض تتجه لتوسيع حضورِ الرعاةِ الصحراويين في المجتمع، وهو أمرٌ جرى لضرب اليسار(المسكين) دائماً، ونتائجه الوخيمة انه لا يمكن عودة الرعاةِ لمضاربِهم بعد انتفاخِ أوداجهم السياسية بالمال النفطي.

إن ثقافةَ الصحراءِ المُجذرةِ من قبل المال الزيتي تكرستْ أكثر بعد الغزو، وتوجهتْ للغيبياتِ والحدةِ المذهبية وحدث انهيارٌ عقلاني في بنيةِ الكويتِ الثقافية الفكرية، فوجدتْ نفسَها خلال سنوات أنها في طريق مسدود، بعد أن كانت تنمو باتجاه عقلاني ديمقراطي وطني وفي بنيةٍ متماسكة اجتماعية وجاء الغزو وخلخلها، فلم تستعدْ تلك اللحظة ودخلتْ في ردودِ أفعالٍ حادةٍ ضد الحداثة القومية العربية واليسار، حيث لم تر من صيغها سوى البعث الغازي الإجرامي، كما استمر الضخُ المالي وتصعيد فئات الكسل الاجتماعي، ووجدتْ الجماعاتُ الطائفيةُ المحافظة زمنَها السعيد الحافل بإنتاجِ كلِ أدوات الخرافة والتسطيح الشعبي، فراحتْ تدغدغُ كلَ ما هو متخلف لدى الناس، عاجزة عن إنتاج برنامج ديمقراطي تحويلي، متصيدة أخطاء خاصة مضخمة إياها حتى سدت بها عين الشمس.

لا تريد هذه الجماعات إعادة الكويت لسكة الحداثة والاقتصاد الحر المتطور والعقلانية السياسية بكل أدواتها المعاصرة وأن تترك التجارة بالدين، وهي التجارة السطحية التي لا تملك غيرها، محولة ذلك لأزمةٍ وطنية بلا أي أبعاد تحولية حقيقية.

كانت الكويتُ واعدةً ولاتزالُ بكلِ أمطارِ الحداثةِ فهي التي أسستْ السينما عبر(بس يا بحر) وهي التي نشرتْ المسرح الساخر ونافست فيه قمم الدول العربية، وجعلتْ من الفكر مادةً يوميةً منشورةً على الأرصفةِ لكل العمال، وهي التي نشرت الصناعات الأولى، ولكن الغولَ الطائفي دخلها، وافترسَ وعيها، وصار الكسلَ الاجتماعي غولاً آخر وغدت الملايين موجهة للبرك والخدم والملابس والطاولات المتخمة بالمأكولات وللسفريات المجنونة، ولم تُنتجْ من هذه الملايين ثورةٌ صناعية أو سينمائية، أو مسرحية، وقد تحولتْ أصغرُ بلدان شرق آسيا بخضراواتِها وماعزِها ودجاجِها إلى دولٍ صناعية كبرى، ولكن الكويت ظلتْ بدويةً منافحةً عن معارك داحس والغبراء، تنامُ في الشتاء وتسافرُ في الصيف، ولم يقلْ الناسُ فيها بس يا خرافة بس يا طائفية بس يا معارك جانبية فارغة!

ليست الكويت في هذا وحيدةً فالتعطيلُ السياسي والتأزيم يمضيان في بلدان عربية عديدة، وكل بلد له غوله الخاص وأشكال تجلياته (السعيدة)، فالجماعاتُ الطائفيةُ السياسية العسكرية المغامرة بمصير الشعب اللبناني تجمدُ الحكومةَ في لبنان، وتخطف سوريا من عالم الحداثة الديمقراطية العلمانية وتسلمها للمجهول الطائفي، وتحول العراقَ لفسيفساء طائفية وتشق فلسطين إلى جناحين ذابلين متهاويين يحصلُ شبحُهما على اعتراف دولي بوجوده وهو يختفي عن الأنظار غائصاً تحت ركام الفساد، ويحرقُ هذا الغولُ بل الغيلانُ اليمنَ كلها من الجنوب حتى الشمال، وتجعل هذه الغيلان خريطة السودان نارية مشتعلة، كل يوم يُختطف إقليم حتى يتبخر البلد في ملكوت العسكر الذي لا يشبع من الخراب.

أخبار الخليج 5 يناير 2011