المنشور

السوق بين النظام والفوضى


هذه هي المرة الثانية التي أحاول فيها تسليط الضوء على ظاهرة يشكل استمرار ممارستها إضراراً اقتصادياً وبيئياً وحضارياً متراكماً بسبب عدم قيام الجهات ذات الاختصاص في الدولة بمهامها المطلوبة لوضع حد لها . بل إنني أكاد أُجزم أنها في اتساع وأن أعداد المنخرطين فيها في ازدياد . 

القصد ينصرف هنا إلى قيام أعداد متزايدة من الآسيويين منذ الصباح الباكر بالتوجه إلى السوق المركزي في المنامة وشراء مختلف أنواع الخضروات بالجملة ومن ثم شحنها على عرباتهم (Carriages) عربانة باللهجة البحرينية الدارجة)، لنقلها مشياً على الأقدام عبر شوارع وأزقة العاصمة (شارع اللؤلؤ المؤدي للسلمانية وشارع الشيخ حمد المؤدي لشارع الشيخ عبدالله وشارع الحكومة وشارع الشيخ عبدالله وأزقته المتفرعة) والتي تغص في هذا الوقت بالسيارات والمارة . . وهكذا حتى وصولها إلى مستقرها حيث البقالات المنتشرة كالفطر في هذه الأحياء والتي يمتلكها ويديرها الآسيويون أنفسهم .
 
بمنطق اقتصاد السوق المفتوحة فإن هؤلاء الآسيويين لم يفعلوا ما يخالف ذلك المنطق . فهم يتوجهون لسوق الجملة للخضروات الذي يفتح مزاداته في الساعات الأولى من صباحات كل يوم، ويقومون بشراء مؤونتهم اليومية منها بسعر الجملة (Wholesale price) لينقلوها على وسيلة نقلهم المذكورة (عربانات) عبر الشوارع والطرقات والأزقة إلى بقالاتهم ويبيعونها بسعر المفرق (Retail Price) .
 
حرية السوق هنا مكفولة كما نرى، وهي تمارس كما نرى، من قبل المبادرين (Entrepreneurs) الآسيويين حتى حدودها القصوى . إنما علينا أن نتذكر هنا أيضاً أن السوق لم تخلق من عدم، وأن لها مُعادلاً هو الحكومة التي هي صانعها (Market maker) وضابطها . فجميع اقتصاديات السوق يجري فيها الحرص على الموازنة بين قطبي معادلتها وهما السوق والحكومة، كي لا يتم الإخلال بها بطغيان دور إحداهما على الأخرى، الحكومة على السوق أو السوق على الحكومة .
 
يحدث ذلك حتى في أصغر عمليات السوق المفتوحة مثل الحالة التي نحن بصددها والمتصلة بقطاع التجارة الداخلية ومجال توزيع منتجاتها (Distribution)، كي لا تنتقل عدوى الاختلال فيه إلى مفاصل أخرى ذات صلة في الاقتصادين الجزئي والكلي، من حيث تأثير مثل هذا المستجد على ما يسمى بتشوه وانحراف الأسعار (Price Distortion) في تجارة المفرق التي وإن كانت سوقها صغيرة، كما أسلفنا، إلا أن دورة رأسمالها سريعة بما يرفع من هوامشها الربحية التي تذهب حصيلتها، كما نفترض، تحويلات مالية إلى البلاد الآسيوية التي صار مقيموها في بلادنا يتحكمون في العديد من أسواق قطاع التجارة الداخلية البحرينية، هي بالإضافة إلى البقالات والسوبر ماركت، على سبيل المثال، سوق اللحم وسوق الفواكه والخضار وسوق السمك (جزئياً) وسوق الذهب والمشغولات الذهبية وسوق بيع الأقمشة والملابس الجاهزة والاكسسورات النسائية . بل إنهم نجحوا في اقتحام قطاعات أخرى غير قطاع التجارة الداخلية، مثل مقاولات الباطن، وورش صناعة الألمنيوم المتصلة بقطاع التشييد والديكور . . إلخ .
 
طبعاً هذا إن دل على شيء فإنما يدل على نباهة وجدية واعتمادية (Accountability) المبادرين الأجانب (الآسيويين تحديداً) قبالة بلادة وعدم جدية أقرانهم البحرينيين الذين هجروا هذه الأنشطة الاقتصادية وأخلوها بمحض إرادتهم لمصلحة “أسيادها” الجدد ضمن إحدى صيغ الاتجاه الاحتيالي بالسجلات التجارية . وفي هذا خسارة اقتصادية مضاعفة، إن لجهة خسارة مواقع وظيفية، أو لجهة الإسهام المباشر وغير المباشر في مفاقمة الجانب المدين من ميزان مدفوعاتنا (في صورة زيادة حصيلة التحويلات المالية الصافية للخارج – حساب رأس المال في ميزان المدفوعات)، أو لجهة تضييق قاعدة ملكية أصول القطاع الخاص البحريني . وبالعودة إلى أصل الموضوع فإن الآسيويين إذ ينقلون مشترياتهم الصباحية اليومية على عرباناتهم، فإن محركهم إلى ذلك هو اقتصادي صرف وهو خفض نفقات النقل من جملة تكاليفهم الإنتاجية .
 
ولكن أقل ما يقال عن هذا التدبير إنه مخالف لقواعد السير والمرور على أقل تقدير . فهذه العربانات مخصصة لنقل الأشياء والمنتجات داخل نطاق السوق المركزي وليس التسكع بها وهي معبأة عن آخرها بأحمال ثقيلة من الخضروات بصورة تنطوي على مخاطر تهدد سلامة أصحابها أنفسهم والسلامة المرورية بوجه عام، ناهيك عن مساهمتها في مفاقمة الظاهرة العشوائية في العاصمة “المنامة” وتشويه وجهها الحضاري بهذه المناظر التي تسنتسخ نماذج لها مماثلة في بعض الدول الآسيوية . إنهم بذلك يفكرون في توفير كلفة نقل بضاعتهم في سيارات النقل المشترك (بيك أب) رغم زهدها ولا يفكرون في كل العواقب الأخرى التي أتينا على ذكرها . ولا نعلم كيف سمحت السلطات البلدية وإدارة المرور والترخيص لهذه الظاهرة المخلة بنظام السوق وبنظام السير أن “تزدهر” وتتنامى يوماً بعد آخر .
 
الفوضى هي العدو اللدود للنظام، فمتى ما تسربت هذه إلى مفصل من مفاصله فإن ذلك يُنذر ببداية تصدع النظام . فلنضع حداً لمثل هذه المظاهر العشوائية التي تحمل كل بصمات الفوضوية .