المنشور

التاريـخ الصغيـر

في «المقدمة» يذهب ابن خلدون إلى أن «التاريخ في ظاهره لا يزيد على أخبار سياسية عن الدول والسوابق من القرون الأُول، تنمو فيه الأقوال وتضرب فيها الأمثال، إلا انه في باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل، في الحكمة عريق، وجدير بأن يُعد في علومها وخليق».
وكأننا بابن خلدون في هذا يحضُنا على التفكر في الحاجة الدائمة التي لا تنتهي لإعادة تأويل التاريخ، حيث لا منجز نهائيا في هذا المجال، حين تصبح جميع الأحكام خاضعة لإعادة الفحص والتدقيق.
أحدهم قال:« إن التاريخ لم يقع .. والمؤرخ لم يكن هناك» . وأياً كان الأمر فان التاريخ قد وقع، لكن المؤكد أن المؤرخ لم يكن هناك بالفعل، لم يكن موجودا وقت وقوع الحادثة، انه أشبه برجل المرور الذي أتى متأخرا للتحقيق في حادثة مرورية بعد أن تم كل شيء، وأعد روايته لما حدث نقلا عن الشهود، والشهود ليسوا مجردين من الأهواء، ثم أن محضر التحقيق تضمن في خلاصته ما ظنه المحقق صحيحاً، أي ما اقتنع به هو من شهادة هذا الشاهد، لا ذاك.
وليس بوسع أحد أن يجزم في صورة مطلقة أن هذه الشهادة بالذات هي الحقيقة الناجزة أو أن العناصر التي اختارها المحقق من أقوال الشهود جميعا ليتبناها، هي بالضرورة العناصر الصحيحة التي أهملها وظنها غير دقيقة أو صائبة.
التاريخ يظل دائما بحاجة لإعادة قراءة، لإعادة كتابة، وفي عبارة أخرى لإعادة تأويل. ربما لا يدور الخلاف حول أن هذه الواقعة التاريخية تمت أو لم تتم، وإنما يدور في درجة أساسية حول الملابسات التي أحاطت بهذه الواقعة.
يُذكرنا ذلك بالفارق الجوهري بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية، ومن ضمن هذه الأخيرة التاريخ ، فإذا كان بوسع عالم الفيزياء أو الكيمياء أن يجري الاختبارات العديدة في المختبر للتحقق من النتائج العلمية التي بلغها، فلا تعدو «حقيقة» متداولة إلا بعد فحوصات متأنية، فان الباحث في العلوم الاجتماعية يشتغل في فضاءات اجتماعية ومعرفية معقدة تجعله عرضة للخطأ أكثر من عالم الطبيعة، لأنه لا سبيل سريعا لاختبار خلاصاته أو التحقق من مدى صحتها.
كان الفلاسفة الطبيعيون قد لاحظوا ذلك حين نبهوا إلى أن مادة التاريخ بالذات غير ثابتة وغير قابلة للتحديد، لأن الاختبار والتجربة أمران غير ممكنين في الدراسة التاريخية.
ولعل العودة المطلوبة للتاريخ تتصل بالجزئيات، بالتفاصيل التي كثيراً ما جرى إهمالها لصالح التعميمات، أي الوقوف عند الأحداث الكبرى كالحروب والغزوات، وإغفال ما كان خلف ذلك أو الى جواره، بصفتها عناصر لها سياقها المستقل الذي كانت له سيرورته الخاصة به التي ظلت مستمرة على «هامش» التطورات الحاسمة.
لقد جرى النظر الى هذه التفاصيل بصفتها مادة»غير تاريخية»، أو في أحسن الأحوال بصفتها تاريخاً ثانوياً، أو تاريخاً صغيراً، مع انها قد تكون غيرت مجرى التاريخ ذاته أكثر مما فعلت الأحداث الظاهرة، أو الكبرى.
 
صحيفة الايام
8 ديسمبر 2010