المنشور

مقاربةُ الغربِ للشرق

في العصر الماضي كانت مقاربةُ الغربِ للشرق هي التظاهرُ بالتدين والإسلام مثلما بدأت الحملةُ الفرنسيةُ حين لبس نابليون عمامةَ الأزهر وكتبَ بياناً عربياً بليغاً يعلنُ فيه إسلامَهُ وإنه جاءَ لتأديب الأتراك العثمانيين المحتلين!
رغم مُثُل الثورةِ الفرنسية وادعائها إنشاء علاقات جديدة بين الشعوب فإن الرأسماليةَ الوليد اعتمدتْ سياسات الغزو والبحث عن المواد الأولية لمصانعها أكثر من اهتمامِها بالقيم.
كانت الرأسمالياتُ الغربيةُ وقتذاك في حالةِ نهمٍ شديدةٍ للمواد الاقتصادية الرخيصة وحتى للحمِ الشعوبِ السوداء الطازج الصالح للأفران والمزارع الكبيرة.
انتشرتْ مقاربةٌ غربيةٌ واسعة سائدة نحو الإسلام والأديان الشرقية عموماً هي البحثُ في تواريخها بأساليب تحليليةٍ جزئيةٍ مفتوحة للتأثير المتعدد الأشكال، ورغم غائيتها التأثيرية التوسعية، كانت مفيدةً ومهمة نظراً للجهود الجبارة التي بذلها الباحثون والمستشرقون لقراءات الوثائق والكتب القديمة وعرضها بشكل جماهيري، رغم الأخطاء والمقاصد الخاصة، وهو أمرٌ طبيعي لمثقفين يشتغلون في توجهات دول وتحت صرفها وتصرفها.
كانت المقاربةُ الاجتماعية السياسية الناشئة في ذلك الحين والشرقُ بيد الغرب هي القيام بالتحكم السياسي العسكري الفظيع مع بعض التحولات المفيدة الليبرالية الجزئية، وهي لا تصل إلى تكوين التماثل بين النظامين الغربي الديمقراطي لأهله والنظام الشرقي الاستبدادي نحو شعوبه.
فالنظام الغربي تهيمنُ فيه القوى التي تستثمرُ وتستولي على المواد الأولية وتريدُ سلاماً وأمناً في العالم المُستَعمر، والإصلاحاتُ التي تجرى هي لإنشاء هذا التبادل وهذه التغذية للمصانع والبنوك الغربية، ومن هنا كانت الإصلاحاتُ جزئيةً والليبراليةُ والعلمانيةُ محدودتين فيما يضمن السيطرة ولا يغذي التمرد.
وهذه العلاقةُ الاحتلاليةُ الإصلاحيةُ الجزئية شكلتْ ثقافةَ التحرر الوطني و(الاشتراكية) غير المؤمنتين بالديمقراطية والعلمانية في مساريهما الغربي، وكوّنت قوى الاستبدادِ الشرقية والجمود الفكري القاري الذي سيعتبرُ طريقَ الغرب الديمقراطي نقيضهُ وعدوه، وهي مرحلةٌ تمهيديةٌ ضروريةٌ لتحولِها التالي نحو الغرب، فهكذا التاريخُ يسيرُ عبر التضاد.
وحين تفككتْ علاقاتُ التبعية المباشرة، وارتفع الاقتصادُ الأمريكي الأكثر تطوراً واتساعاً، وغدت الأسواقُ حجرَ الزاوية في تطور الرأسمالية الغربية رغم الاستحواذ على المواد الأولية الثمينة كالنفط والغاز والذهب، تبدلتْ المقاربةُ الغربيةُ للشرق، فضختْ المزيدَ من دعواتِ الحرية وهُوجم الاستبداد، وعمل الغرب على تحطيم الرأسماليات الحكومة الأشد انغلاقاً وقوة خاصةً الاتحاد السوفيتي حيث لا تُشملا رائحةَ الملكية الخاصة، والبشريةُ هنا في إيجادها للنظامِ الرأسمالي الكوني المتداخل المشترك تتصارع، تبني بعضَها بعضاً بالهدم والإضافة والتجاوز، وقوةُ الإنتاجِ وتطورُ تقنياته هما المضمونُ الحاسمُ المستمر، المدمرُ لعلاقاتِ الإنتاج المتخلفة، أي لهذه الأشكال التاريخية المحدودة التي تُستبدلُ بأخرى.
فهنا الغربُ بحاجةٍ إلى الأسواق، وإلى كسرِ الحمايات الوطنية للدول الشرقية، لتقزيمِ إن لم يكن تحطيم القطاعات العامة، لكن القطاعات العامة هي أساسُ النمو الاقتصادي في عالم كاسح من المنافسة الاقتصادية، ولهذا فإن دعوات الحرية الغربية مرتبطة بذلك، وتأتي حيثياتها على قدرِ الدولِ ومصالحها وأهدافها من الاختراقات والتأثير.
إن ظهورَ رأسمالياتٍ غربية كبرى متطورة ثم شرقية تلحقُ بها، تجعلها تستخدمُ معاييرَ سياسيةً وفكرية لتحجيمِ الرأسماليات الشرقية الصاعدة بقوةٍ مثل: مسائل حقوق الإنسان، ومعايير الفساد، وعمليات التقليد، وغياب الديمقراطية، وغياب الحريات الدينية الخ.
إنها انتقاداتٌ حقيقيةُ لكنها مؤدلجة مُسيَّسة في ظل الصراعات التنافسية، فهي تُوضع بحساب، وبأشكالٍ جزئية، وتستهدفُ أهدافاً اقتصادية، لا أن تظهرَ بشكلٍ سياسي موضوعي عام كلي نقدي. وتتحجمُ هذه الأشكال وتتضخم حسب المواقع ومدى وجود قوى الضغط، تحركُها دوافعُ فتحِ الأسواقِ وانتشارِ الرساميل والحصول على قواعد في مناطقِ الثروات، وبهذا فإن النموذجَ الغربي الديمقراطي العلماني الذي لم يُطبقْ في زمنِ الهيمنة وكان ممكناً، يغدو نموذجياً انتقائياً حسب المصالح للشركات وقوى النفوذ، وهذا ما يصيرُ نموذجياً للقوى الرأسمالية الحكومية الشرقية كذلك، المقاربةِ للديمقراطية، التي بدأتْ تستوعبُ هذا النموذجَ وتطبقهُ بانتقائيةٍ سياسية وتوظفهُ لنمو رأسماليتها الوطنية الخاصة أو لقوى النفوذ فيها.
تنتقلُ إيجابياتُ الغربِ للشرق وتنتقلُ سلبياتُ الشرق للغرب، الحداثة والصناعة والديمقراطية تتغلغل في كيان الدول الشرقية فيما يمضي المهاجرون للغرب بدياناتهم ومشاكلهم وأمراضهم، ويصحو الشرق بجذوره العريقه وإمكانياته الهائلة، ويقفز سلم الحضارة الحديثة بخطوات سريعة.
مشكلات الفساد والتلوث وهروب الأموال والأرباح تنتشر شرقاً وغرباً، وعولمة الأمراض والمخدرات والاستغلال تعم، وتتصاعد كذلك قوى النضال ضد كل هذه المشكلات غرباً وشرقاً، وإنسانية جديدة تتشكل تأخذ زمناً مديداً لتظهر كيانها المختلف.

صحيفة اخبار الخليج
6 ديسمبر 2010