المنشور

قيادة الرأسمالية الحكومية

بعد تجارب طويلة مريرة ومكاسب نهضوية ومشكلات اجتماعية أثبتتْ أغلبيةُ الحكومات في آسيا وافريقيا هيمنة نمط الإنتاج الحكومي المسيطر على الأنظمة الاقتصادية الاجتماعية.
حاول الدينيون مناطحةَ هذا النمط لكنهم في البلدان المستقرة والقوية اقتصاديا فشلوا فشلاً ذريعاً وفي البلدان المفككة زادوها تفككاً وخراباً.
وهم لايزالون في خطاباتِهم الحماسيةِ الشديدة القوة، فيحصلون على مكاسب مادية وفيرة من هذه الحكومات إذا تماشوا معها أو يقبعون في الظلمات إذا عاندوها، ويظل طرح النموذج الديني الإيماني “الخرافي” من قبلهم كحل لا يقبل الجدل لديهم.
لا يتعظون من إنجازات ومآسي غيرهم، فأين الحزب الشيوعي السوفيتي أو الروسي؟ كيف توارى بين غمضةِ حكومةٍ وانتباهتها؟ لماذا لا يحصل على مقاعد في الانتخابات متناسبة مع تاريخه العريض؟
هل المسألة تعود للشيوعية أو الماركسية أم لهيمنةِ الحكومة الشرقية التي تهيمن على الخبز وصناعة الحديد؟
الحكوماتُ الآسيوية والافريقية خاصةً في العالم الثالث هي من يشكلُ الأفكارَ السياسية المسيطرة، ومن يؤثث البرلمانات ومقاعدها، ومن يسمح ولا يسمح بنمو الأحزاب.
هل الحزب الشيوعي الصيني سوف يستمر في السلطة أم سيظهر حزبٌ صيني حكومي يلائمُ التحولات الرأسمالية؟ هذا يعتمد على نمو الفئات الوسطى المهيمنة على الحكم والصناعة والتجارة وعلاقاتها الجيدة مع العمال.
ليس الأمر مؤامرة غربية بل هو التطور الطبيعي لدول الشرق.
إذًا ماذا نفعل؟ هل سنترك الرأسماليات تتحكم بنا؟ أم نقيم اشتراكية نضالية تزيل هذا “التعفن”؟
ولماذا لا نقيمُ نظاما إسلاميا تسودهُ الرحمة والمثل الأخلاقية العليا؟!
حتى الآن لا يريد بعض النخب المتصحرة عقليا والانتهازية سياسيا أن تفهمَ مسار الرأسماليات الحكومية السائدة في الشرق، وأن المذاهب والأديان صيغٌ فكريةٌ قديمة لها.
إن تاريخَ الحكومات الشرقية هو أغلب عمر الحضارة البشرية.
هل تتحول الرأسماليات الحكومية إلى قدر أبدي؟
الرأسمالية الحكومية الشرقية والرأسمالية الحرة الغربية مستويان لتطور قوى الإنتاج، ولا يمكن للرأسمالية الحكومية الشرقية أن تتطور سوى بمقاربة الرأسمالية الحرة، أي أن الحلقة القادمة للشرق الحكومي الاقتصادي – الاجتماعي هي في مقاربة الرأسمالية الغربية الديمقراطية. حلقةٌ رأسمالية حكومية تعقبها حلقةٌ رأسمالية تخفف وتلغي الهيمنة الحكومية، حين تتشكل طبقةٌ رأسماليةٌ خاصة.
هذه تحتاج إلى عقود عديدة.
لماذا لا نختصر الطريق الطويل هذا ونقفز للاشتراكية أو للرأسمالية الإسلامية أو الرأسمالية القومية؟
القومية والشيوعية والبعثية والدينية الإيرانية والسلفية هي كلها تعبيراتٌ عن رأسماليات حكومية ثم تُبث أفكارُها في دول أخرى وتقطعها عن مسارها، فهي تستبدلُ رأسماليةً حكومية بأخرى، ولا تجذر الأفكار الديمقراطية الحرة في بلدانها.
وهذا كله في العصر الراهن كلامٌ فارغ. لا يمكن حل تناقضات أي بلد بمفرده، وأن يقفز وحده إلى الجنة السماوية، نحن كلنا في نظام رأسمالي عالمي تكون قبل بضعة قرون، وهو ذروةٌ لتطور البشرية الاقتصادي الاجتماعي بعد آلاف من السنين وله سيرورته وقوانين تطوره.
الصراعُ في إيران هو صراعٌ بين جناحين للرأسمالية الحكومية: عسكري ومدني.
الصراعُ في روسيا هو أن تخففَ الرأسماليةُ الحكومية الهائلة من هيمنتها على القطاع الخاص.
الصراعُ في الصين هو نتاج قطاع عام يفرضُ هيمنته الكلية على المجتمع ويحدد الثيمات الاقتصادية في كل القطاعات.
التطور الممكن هو تطوير الرأسماليات الحكومية نحو الرأسماليات الحرة، نحو التعددية، ودور البرلمان كمشرع وأداة توازن وحوار بين القوتين الاقتصاديتين الكبريين العامة والخاصة.
الذين بدأوا بالصراع الإلغائي للدور الحكومي المركزي تعرضوا باستمرار للتحجيم والذوبان.
بطبيعة الحال تجب المسايرة والنقد، مساندة الدور الحكومي المركزي البنائي، ونقد التجاوزات، والسلبيات، ونشر ثقافة الحرية والتعددية، وهي العملية التي ستؤدي بعد فترة طويلة بلا شك إلى نشوء تلك الرأسمالية الحرة.
الذين ناطحوا الدورَ الرأسمالي البشري الكوني الذي هو ضرورة موضوعية تتعلق بمسائل تاريخ البشرية ونمو التشكيلات فيها، وتطورها من خلال موادها الحقيقية، وليس من قبيل أحلام الأحزاب والقادة، أين ذهبت أدوارُهم وأفكارهم؟
أغلب عمليات التجاهل للقوانين الموضوعية للتطور التاريخ هي من قبيل الانتهازية وتؤدي إلى كوارث كبيرة للشعوب والأحزاب اليسارية خاصة.
لابد من تثمين وتطوير وتغيير تاريخ هذه الرأسمالية، عبر تأثيث القواعد من قوى إنتاجية خاصة واسعة، ومن ثقافة ديمقراطية علمانية.
تصطدم سياساتُ الرأسماليةِ الشرقية بالغرب خاصة، لأن هناك مستوى آخر من الاقتصاد والسياسة والثقافة، والإنسانيةُ الراهنةُ مكونةٌ من هذا التناقض في تشكيلتها، نحو وحدةٍ سوف يحدثُ فيها تناقضٌ آخر، وترتفعُ لمستوى جديد من التطور والتباين، والقوى المالكة والعاملة ترتفع لتطور أعلى في كل المنظومة، وهكذا فلا استقرار سكونيا كليا، لأن الرأسمالية الكونية ذاتها قفزة ومشكلة ولابد من تجاوزها عبر زمنها الخاص.

صحيفة اخبار الخليج
4 ديسمبر 2010