المنشور

تراجع زمن الانتفاضات الشعبية(3)

هل نحن بحاجة إلى التذكير بالثورة المكسيكية والحروب الأهلية (1910-1940) في القارة الملتهبة؟ وكيف انتهت المكسيك بانقلابات عسكرية, فيما ظل تمرد الفلاحين في الجنوب المكسيكي يحمل نوستالجيا اميليو زاباتا كما فعلت الحركات الفلاحية قبل سنوات؟ هل نحن بحاجة أيضا لكي نلقي الضوء مطولا على الانقلاب الفلسفي والفكري للماوية التي وجدت في الانطلاق من الريف للمدينة وقيادة الفلاحين للثورة بدلا من الطبقة العاملة كانتفاضة مسلحة اقرب للظروف الصينية من الظروف الروسية انقساما داخل البيت الماركسي, حدث ذلك بين الثورتين بمسافة زمنية تقارب العقدين, في وقت كانت كوريا غير المقسمة تخوض حروبا فلاحية ولكنها أخفقت في العشرينات والثلاثينات, ولكنها انتصرت بفضل الجوار الصيني وثورته ووجود نظام بلشفي راسخ أيضا. فإذا ما كانت تجربة الشرق الفلاحية وانتفاضاتها مستمرة وناجحة, فان انتفاضات حركات التحرر الآسيوية كإيران والهند ومصر وعمر المختار في ليبيا والجزائري في الجزائر والخطابي في الريف المغربي وهلماجرا, محاطة بشروط صعبة من الانتصارات ومكللة بالكثير من الهزائم والإخفاقات, اللهم تلك المكاسب الديمقراطية والتحررية في مواجهة الاستعمار والذي قدم حينها إصلاحات سياسية وتنازلات متقدمة لكل المستعمرات, ولكنها لم تلب طموح الاستقلال الكامل للشعوب, فسرعان من اندلعت الحركات الشعبية المسلحة وكانت اغلبها تنطلق من تربة ريفية ونزعة برجوازية صغيرة فلاحية, كانت أفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا منقسمة بين انتفاضات فلاحية أو انقلابات عسكرية, فيما شرعت أوروبا تؤسس لمشروعها الديمقراطي بعد أن اكتشف غرامشي وحركة السوفيتيات في وسط أوروبا, أنهم يستنسخون تجربة البلاشفة التي لم تنضج ظروفها فدفع غرامشي نتيجة تنظيراته وأخطائه والحركة السياسية الايطالية عشرين سنة من السجن, فكان خسارة كبيرة للحركة العمالية في أوروبا في حينها. ظلت منطقة البلقان والدول التي تدور في فلكها تتحرك بين العصيانات المسلحة والإضرابات إلى أن ولدت قوة جديدة مع حركة تيتو اليوغسلافية التي ساعدتها ظروف انقسام العالم إلى معسكرين وظروف حرب عالمية ثانية لانتزاع نصر سهل, كان من الصعب انجازه في ظروف أخرى سابقة أو لاحقة. هدأت الجبهة الأوروبية بنظامين, الأول خنق كل الانتفاضات والاحتجاجات في الإمبراطورية السوفيتية وتقاتل الأخوة الأعداء طويلا, فيما بقت الأنظمة الرأسمالية في أوروبا الغربية تعمق تجربتها الديمقراطية, وتترك للمجتمع المدني مساحته الديمقراطية كالأحزاب والنقابات والانتخابات النيابية, حيث صارت الاحتجاجات والعصيانات والإضرابات شكلا سلميا للتعبير عن مطالب الشرائح والطبقات والفئات, واختفت كل شعارات إسقاط السلطة السياسية عن طريق الانتفاضة العمالية المسلحة. تعمقت تلك الفكرة السلمية لتداول السلطة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وتجذرت أكثر في العقود الأربعة الأخيرة من القرن المنصرم, غير أن نظام العولمة أسس لمنطلقات جديدة, كتعميق مبادئ حقوق الإنسان وممارستها ونقل تجربة الديمقراطية من نطاقها الأوروبي المحدود إلى نطاق كل القارة والعالم برمته. جاء ميلاد الاتحاد الأوروبي ورياح انهيار جدار برلين برؤى مختلفة منحت الشعوب فكرة جديدة ونهائية, كفكرة صناديق الاقتراع والطريق السلمي للسلطة, حيث باتت دول البلقان ودول الاتحاد السوفيتي السابق نموذجا جديدا للديمقراطية, منتقلة رياح التغيير الديمقراطي وصناديق الاقتراع من قارة إلى أخرى حتى باتت دول معدودة على الأصابع مغلقة ومنعزلة وتعاني أوضاعا وممارسات مزدوجة في أنظمتها السياسية الداخلية. ودون الدخول في تفاصيل المسألة وحيثياتها, فان الشعوب السابقة وأنظمتها وجدت في الديمقراطية الطريق الأفضل والبديل المناسب لتحقيق المكاسب المتنوعة للمجتمع, وبضرورة رفع وعي الناس بأهمية الحقوق المدنية والحريات للأفراد, فخلق ذلك مناخا احتجاجيا يعزز قيمة المجتمع المدني وأسلوب عمله الجديد في نقل الصراع من حالة الانتفاضات المسلحة التاريخية – ونهايتها – إلى حالة الديمقراطيات البرجوازية وتجددها في كل منطقة إقليمية ومحلية, حيث المسار التاريخي سيكون حتما مختلفا والتراكم التدريجي سيظل هو عنوان البيت العالمي الجديد الذي تصارع فيه الكتل والقوى الكبرى عبر جبهات اقتصادية وثقافية وسياسية في مؤسسات دولية وإقليمية, تاركة للشعوب خيارها في صياغة مشروعها الإنساني الجديد في الألفية الثالثة.
أمام هذا المشهد العالمي للدول والشعوب, تقفز وتتبلور مواجهات بين الأنظمة والشارع السياسي, فهناك أنماط من الجماعات السياسية التي لم تستوعب المرحلة الجديدة, بل ولم تقدم برنامجا كاملا لحركتها بسبب تخلفها عن سرعة المتغيرات والمعطيات, إذ من المستحيل كما نرى القبول والرضوخ إلى حركة ريفية متخلفة بزعامة المجتمع المدني الأكثر حداثة, ولا يمكن قبول ترييف وتزييف وعي الشعوب والمدن الكبرى في الدول النامية, بحركات طائفية وعصبوية وأصولية, فمتى ما تركت للتمدد الشيطاني تكون المحصلة النهائية صدامات عنيفة بين نسيج المجتمع الواحد قبل أن تكون صراعا سياسيا واعيا موجها في أوعية واضحة. هل نترك لمجتمع بلا هوية سياسية وطبقية غير واضحة يهيمن عليها الفكر الديني ومسئولة عن اختطاف حركة الحداثة والتنوير من أيدينا (هل يصبح ربيع الثقافة مثالا محدودا ومهما والأحوال الشخصية عنوانا) حتى وان كنا مجبرين على تقاسم تلك المعضلة الآنية مع الأنظمة في حدود مشتركة؟ فالحديث في تفاصيل فسيفساء السياسة المحلية وغيرها تدفعنا للتوقف مطولا حول فكرة وهم اندلاع انتفاضات قادمة لمجرد ان التناقضات كامنة دائما, بنسياننا أن هناك إمكانية لحل تلك التناقضات المولدة للانتفاضات أيضا وامتصاص مكوناتها الانفجارية. اللهم إن من يعولون على حرق الإطارات متفائلون بشكل مفرط, بأنها ستكون طريقا للانتفاضة الشعبية القادمة والكامنة!! تلك ليست إلا طواحين دونكيشوت!

صحيفة الوسط
17 اكتوبر 2010