المنشور

المواجهة الأمريكية – الإيرانية

هذه المواجهة محوريةٌ وخطرةٌ في المشرقِ العربي الإسلامي خاصةً، فمن جهة يرفض النظامُ الإيراني أبجدياتَ الحداثةِ الراهنة من ديمقراطية علمانية وتعايش سلمي بين الأنظمة المختلفة نظراً لسيطرةِ العسكر الديني على السلطة، ومن جهةٍ ثانية فإن سياسةَ الولايات المتحدة جعلتها المتحكمة الرئيسية في الوضع السياسي العالمي، وتضعُ مصالحَها التجاريةَ التي هي مصالح كبريات شركات النفط والصناعة وغيرها كقانونٍ عالمي لا يجوز تغييره ويتجلى ذلك في ازدواجيات السياسة والثقافة.
ففي الوقت الذي عملتْ فيه على تصعيد إسرائيل كقوةٍ خارج نطاق القانون، عملتْ على استصغارِ المجتمعِ الإيراني وعلى كتمِ تطورهِ الحر.
كما عملتْ على تجميدِ تطور المجتمعات العربية الدينية المحافظة بحيث وجدنا سياستَها نفسَها تنتقدُ ما آلتْ إليهِ الأمور من تفاقم العودة للوراء والتفتت.
لم تتحولْ الديمقراطيةُ العلمانية كقانونٍ للدولِ الغربية ووجدتْ نفسَها خلال القرون السابقة تكرسُ الأنظمةَ الدينية المحافظة، وإنشاء إسرائيل هو نفسه نموذج صارخ على تأسيس دولة دينية عسكرية.
ولهذا فإن القراءةَ الأمريكيةَ الدينية لتطور المجتمع الإيراني تتشكلُ تحت هذه المظلة، وعقبَ عدة عقود من السيطرة انتجتْ لنا نظاما دينيا متشددا.
ونظراً لتكريس النظام الإيراني نفسه في سياساته الخارجية الدعائية ضد إسرائيل لكسب الشعبيتين الداخلية والخارجية، وهو أمرٌ كرستهُ الأنظمةُ والجماعاتُ الشموليةُ العربية، فقد صار هدفاً لابد من هزيمته.
هزيمة إيران صارت هي بؤرة السياسة الأمريكية، وهي الهدف الأول من أغلبِ تحركاتها، وهي تستغلُ المسألةَ النوويةَ من أجلِ مشروعية الضربة التي تريدها، لأخذ الثأر من عدة عقود من الاذلال.
من هنا تتحرك عبر بيادق الشرق الأوسط لتشكيل هذه اللعبة الكبيرة، وهناك جبلٌ من الأحقادِ والموادِ السياسية والدرامية في حقل الثأر هذا، ولاتزال المعركةُ مع العراق في ذكرياتِها الانتصارية المثيرة، وتَعقدُ مماثلةً واعيةً بين النموذجين العراقي والإيراني السياسيين، وتتصور انه ربما حالفها الحظ كما حالفها الحظُ مع النموذج العراقي الذي سقط كبيتٍ من ورق المشتعل حتى الآن.
من الناحية المذهبية السياسية كان نظام صدام قد حطمَ علاقاته بالقوى السنية الواسعة التي ارتكزَ عليها بعد أن أخفقَ في مشروعه (العلماني الشمولي) وبعد أن دمر منذ زمن بعيد علاقاته بالجماعات النضالية العربية الحقيقية.
ليس ثمة مشروع ديمقراطي علماني لدى كل من إيران وأمريكا، وكلتاهما تكرران الحروبَ السياسيةَ الدينية للعصور الوسطى. لكن أمريكا تأتي من البوابة المفترضة للغرب الحداثي، وهو غير صحيح بل تأتي من نموذج الحرب الصليبية اليهودية الآن، وهي لها إنعكاساتها الكبيرة الخطرة.
ولا تفيد بعض التراجعات الصغيرة عن هذه الحرب بل تتطلب تحولا استراتيجيا للغرب (الغازي) نحو العلمانية الديمقراطية وتجاوز نموذج الدولة الدينية الذي صار إشكالية كبرى.
فهذا النموذج سوف يغرق العالم الإسلامي في المزيد من الثارات والحروب، فهزيمة سريعة للنظام الإيراني هي غير ممكنة، بل إن أي ضربة سوف تعزز شعبية النظام ويجند الملايين لإحداث تمزيق هائل في كل ما بنته الولايات المتحدة من سياسات.
لا شك أن تطور الديمقراطية العلمانية في كل من أمريكا وإيران يعتمد على بعضه بعضاً، فكلما اقتربتْ السياسةُ الأمريكيةُ من الشعبِ الأمريكي ولم تعبرْ فقط عن مصالح الشركات الكبرى، فهمتْ مشكلات الشعوب، مثلما أن الشعب الإيراني يتلمسُ طريقَه لتجاوز النظام الشمولي الديني للعسكر ولشيوخ الدين المحافظين بصعوبات شديدة، ولكن هذا لن يتحقق إلا بالدماء الغزيرة التي ينزفها الشعبان الأمريكي والإيراني، (والشعوب المغلوبة على أمرها العائشة وسط مرمى النيران بين العدوين) ثم يكتشفان محدودية مثل هذه المعارك.
والطوائف التي تؤيد كلا من الفريقين تتصارع وتمزق دولها، ثم في أثناء المعركة الواعدة ستدمر ما بقي.
المواجهة كارثة بكل المقاييس، وإنتاج مثل هذه الحماقة الكبرى في السياسة الراهنة، فهو توسيع الصراعات وإنتاج دمار غير مسبوق.

صحيفة اخبار الخليج
13 سبتمبر 2010