المنشور

نيكوس يضحك دائما!

التقيت بشخصية نيكوس في احد مقاهي نيقوسيا ’ وإذا ما قلنا وكتبنا عن طبائع تلك الشخصية فهو بالضرورة بحاجة لروائي عبقري مثل نيكوس كازانتزاكيس لتصوير نسيج هذه الشخصية العجيبة ’ ففي شخصيته طباع من زوربا وملامح بحار مغامر وسائح جوال ومكتشف للثقافات ومجنون من نمط جميل ’ إذ يجعلك كلامه المجنون المقارب للفلسفة تود مجالسته ’ فلديه من الأسئلة الاستفزازية المثيرة للفضول والعقل . كان نيكوس منتظما في حضوره للمقهى وتربعه طاولته التي تنتظره في وقتها المحدد ’ فقد عقد نيكوس معها ومع الزمن ومناخ المقهى وزبائنه علاقة ود مستمرة ’ وهو يفرض حضوره بمودته تلك مع كل الرواد هناك ’ كما أن صاحب المقهى يعتبره أبو الهول ’ هكذا صار اسمه وقد أحب نيكوس تلك التسمية ’ مع انه كرر مرارا علنيا انه والمكان عمود من أعمدة البارثينينوس في معبد الاكروبولس في أثينا ’ حيث انتصبت عالية فوق الهضبة ويراها الأثينيون من بعيد ’ منذ نشأتها حتى الان ’ كلما ابتعدوا ووجدوا مرتفعا بعيدا لا يقطع أبصارهم الممتدة .
ومثلما كنا نسميه أبو الهول فهو لا يمكنه أن يترك الضحك يغادر وجه الصبوح الطيب والمفعم بالمودة للجميع ’ فقد وزع الأسماء على رواد المكان بطريقته كما يوزع السخي كرمه للجميع دون انتظار أو مجاملة أو تزلف. بقيت وحدي بلا تسمية لكوني زائر جديد للمكان ’ غير أن نيكوس كسر هدوئي وعزلتي حينما قال لي ’ يبدو عليك من دول الجوار ’ فكان يتصورني بسبب البياض إنني لبناني أو من سكان بلاد الشام .
فقال مداعبا هل تدعوني لطاولتك أم انك بخيل ’ وإذا ما كنت خجولا فانا ادعوك لطاولتي ! تعجبت من بساطته وصراحته العجيبة وذلك الخطاب المباشر والتلقائي ’ فأدخلني في تساؤل الدهشة وحيرتها ’ غير إنني كسرته فورا بالرد ’ لكي لا تتهمني بالبخل فانا ادعوك إلى طاولتي ’ إذ يفضل الواحد فينا صفة الخجل بدلا من البخل. في تلك اللحظة لم أكن اعرف أن نيكوس يعرف كل الجالسين فهو ملك المقهى وأميرها المتوج ’ ومحبوبها اليومي ’ فيما عدا شخصي الغريب الذي سقط من السماء عليهم ’ فانتحى داخل المقهى في زاوية هادئة لو لا ضوء النافذة الذي يسمح بنفاذ خيوطها الشتائية الدافئة .
حالما جلس بقابلتي مد يده إلي مصافحا : نيكوس أندرياس لاجئ في بلاد تنتظر موتها ! فقلت له بحريني مفلس يبيع لؤلؤ صناعي ! ضحك بقوة لم أكن أتصورها فبدا كطفل كبير ’ فصرخ بيونانية اقرب للهجة أهل قبرص ’ وجدت التوأم الذي ابحث عنه فانا نصف مجنون وهأنذا وجدته هنا بعد أن طفت بلاد الانديز ولم اعثر عليه . أصبحنا بعد تلك الجلسة أصدقاء دائمين نتجاذب أحاديث الحياة والسياسة والسفر والنساء والفن والأدب والموسيقى. ومن خلال يوميات نيكوس العجيبة الغريبة ’ عرفت عن انه تخرج من إحدى جامعات روما في مجال الانثروبولوجيا ’ واخبرني أن حلمه كان الذهاب فيما وراء جثث الموتى في حضارة المايا والانكا ’ لكي يبعثر أحجارهم بطريقته حسبما يقول ’ فقد جذبته الرغبة الى هناك بسبب الموسيقى والحيوية والجنون والضحك ’ وأكد لي أنهم يناسبون شخصيته ودمه الحار وجنونه الجنسي وحبه للنساء . لم يستكمل نيكوس أحلامه ’ كابن للطبقة الوسطى ’ فقد مات والده وهو في سنة تخرجه ’ فحمل الأب للقبر غضبه على ابنه معه ’ فقد كان الأب يود لو تخصص ابنه في التجارة أو أي تخصص له علاقة بالبزنس ’ فدراسة جثث الإنسان الحي أو الميت لا تعني للأب عالم مفيد ’ كما أن ثقافة الشعوب وعاداتها وألسنها ليست أهم من التجارة معها ومناقصتها وغشها والكذب عليها . ماذا تعمل مع أب كهذا نصفه جاهل والنصف الآخر أحمق ! لقد أتعبني والدي بنصائح غبية لطالما كررها الآباء على الأبناء ’ حتى طفشنا منهم نحو المجهول ’ أمي وحدها كانت تغمز لي من وراء ظهره ’’ دعه يقول كل ما يريد وافعل ما تريد ’’ فلدى كل واحد فيكم عقل وروح مختلفة ’ انه بخيل جمع ثروته لكي يتركها لابن كريم جاء لينفقها بطريقته .
ظل نيكوس يمجد والدته التي علمته إن يحب الرقص والغناء والسفر ’ بدلا من ولولة والده المملة والجمل الميتة . عندما عاد نيكوس من ايطاليا اثر خبر وفاة والده وجد أمامه ثروة كبيرة ’ دزينة أوراق من أراض صارت أسعارها ثروة لوحدها وعمارتين بدخل ثابت في شارع رئيسي ’ ورصيد بنكي أرباحه السنوية تكفيه أن يعيش أميرا كل ليلة كما يشاء .
لكنه ظل متواضعا ’ بسيطا ومحبوبا كبساطة أمه التي هجرت عائلتها الثرية بسبب حبها المجنون لوالده المدقع ’ وعاشت معه رومانسية الفقر والبؤس ’ فكان على نيكوس أن يشهد حالة معاكسة ’ فهي امرأة جاءت من بيوتات غنية لم تلتفت للثروة وإنما لجنون قلبها وأب بائس محروم انغمس في تجميع المال ونسى كل ألوان المتع والضحك والفرح ’ ومكث يعد كل يوم دخله من متجر متواضع ’ بوجه مكفهر وكيف يتصرف مع أرباحه ’ وكلما دخل فناء البيت زعق على زوجته ’’ انك ستفسدين هذا الولد بدلالك ’ لا ألومك فأنت جئت من بيوت النعمة ’’ متناسيا بكل جحود تضحياتها من اجله . تلك التضحية – قال لي نيكوس – علمتني أن الحياة عبث ’ مثلما قالت لي أمي وهي على فراش الموت ’’ لا تكن يا بني مدفونا في الحياة كما ندفن في القبر ’ ولا تكرر ما عاشه والدك من حزن وهم وغم ’ فافرح بكل لحظة واضحك من أعماقك للحياة ’ فليس للحزن فائدة ’ وإذا لم تمنحنا الثروة سعادة وفرحا ’ فالأجدى أن نموت مبكرا ’’ . وبالرغم من سرده السريع ذكرني بموعد الغد على طاولته ’ فهو على عجالة من أمره ’ وهو يضحك قائلا ’’ تايم فور وومن ’’ وبصوت عال سمع الجميع صرخته وهو يخرج ’’ ينيكيس ’’ وتعني النساء . فهل نلوم نيكوس عندما يكرر علينا دائما بضحكته ’’ إن الزواج نقيض للحرية’’.
 
صحيفة الايام
31 اغسطس 2010