المنشور

حرائق الإطارات والمقالات


لحساسيته المفرطة تصعب الكتابة في موضوع كهذا في ظرف مشحون يتراجع أو حتى يغيب فيه العقل أحياناً. إنها لمخيفة حقاً وصمة «يا إحنه يا هم» التي تحدث عنها أخي وزميلي عثمان الماجد في مقالته الرائعة في إحدى الصحف المحلية الأسبوع الماضي «أية معارضة هذه؟». ولأن الغبار المثار لم ينقشع بعد فإن بقاءه يدفع للكتابة بإلحاح.

تذكروا… من أيام هيئة الاتحاد الوطني في خمسينيات القرن الماضي وحتى ثمانينياته… من ذا الذي يمكن أن يجرؤ فيصم أياً من التنظيمات السياسية أو قادتها بالطائفية؟ تذكروا يوم خرج شعبنا موحداً لنصرة شعبي مصر والجزائر ووقوفه الدائم إلى جانب الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة. تذكروا إرادتنا التي تلاحمت كشعب بحريني في مقاومة الاستعمار البريطاني – بالسلم والقوة – والدفاع عن مصالح الشعب المقهور. من ذا الذي كان يميز بين بونودة والقصاب ونجم وغيرهم من الشهداء الذين اختلطت دماؤهم الزكية فداء للوطن، من أية طائفة هذا الشهيد أو ذاك؟ تذكروا مارس/ آذار 1970 حين أسمع شعب البحرين بصوت واحد ممثل الأمين العام للأمم المتحدة أنه يريد بلاده عربية مستقلة عن المستعمر البريطاني أو الطامع الإيراني، وبذلك وضعت انتفاضة مارس 1965 واستفتاء مارس 1970 الاستقلال الوطني على جدول الأعمال بكل قوة.

هل كان إنجاز الاستقلال شيعياً أم سنياً؟ تذكروا يوم صوّت شعبنا على ميثاق العمل الوطني بنسبة (98.4 %) الذي ارتضاه نقطة انعطاف ونبراساً للتطور اللاحق لمجتمعنا وبلادنا. وهل في هذه النسبة ما يشي بأن شعب البحرين كان يفكر «برأسين»، سني وشيعي؟ تذكروا اليوم المشؤوم الذي سقطت فيه طائرة طيران الخليج وهي تحمل على متنها نموذجاً مصغراً لشعب البحرين، فتجلببت البلاد كلها بالسواد. من كان يفكر، وهو يجوب البلاد ويصلي صلاة الميت أو يقدم التعازي، في أن ضحية الحادث سني أو شيعي؟

ويمكن أن نتذكر عشرات الأمثلة التي تؤكد وحدة شعبنا التي أصيبت اليوم بمكروه بسبب «نضالات» من نوع مختلف عن تلك التي عرفناها من أجل الشعب والوطن.
فعن وعي في الغالب أو غير وعي أحياناً، عمل ذوو تفكير «يا إحنه يا هم» على تزييف الوعي الاجتماعي والتقاليد النضالية الأصيلة لشعبنا. ومهما قال دعاة هذا التفكير سواء على جبهة إضرام النار في الإطارات أو إضرامها في مقالات الصحف والخطب فإن جوهر أطروحاتهم الأيديولوجية من على ضفتي الطائفية واحد: إن على الشعب أن يُقدم على الانتحار الجماعي فداء لرسالتهم «السامية». أما أية رسالة هذه التي يجب أن يذهب عامة الشعب فداء لها، فحول ذلك يجري بين قوى التزمت الطائفي «حوار طرشان» لا ينقطع. وبالنسبة لنا فالأمر سيان سواء جرى الحديث عن هدف الصعود إلى المريخ أو زراعة الفجل على الأرض، كما يقول الناقد المعروف ليف بيراغوف. إنهم – هنا وهناك – يدفعون بشعبنا نحو الانتحار الجماعي. وحكاية الانتحار الجماعي تتكرر في تاريخ الجماعات والشعوب بأشكال ومضامين مختلفة.

في العام 1561 وفي أشد الحالات تطرفاً أقدم هنود ماي على انتحار جماعي عن طريق شنق أنفسهم. كانوا يعتقدون أنهم بذلك يقدمون أرواحهم قرابين في سبيل إنقاذ شعبهم. واعتبروا الحبل الملتف على أعناقهم بمثابة الوصل مع الآلهة. وللإنصاف فقد كان هؤلاء، بعكس ما يعمل به المتطرفون في أماكن وحالات أخرى، يمنعون إجبار أي أحد على الانتحار بالإكراه. وحسب تفكيرهم البدائي فقد كانت تلك محاولة لحل المشاكل الاجتماعية المعقدة. لكن أكثر حالات الانتحار الجماعي إثارة للدهشة في القرن العشرين كانت تلك التي قام بها أكثر من تسعمئة من جماعة طائفة «المعبد الشعبي» في العام 1978 في غويانا هرباً مما أسموه «بالحضارة البرجوازية المثيرة للريبة». يقول يرامي بارنوف في هذا الصدد: «إن ارتباط الإنسان المعاصر بالأوهام السوداء يحمل في طياته عواقب وخيمة»، مشيراً إلى أن هذا ما قامت به تلك الطائفة المؤسسة «على شاكلة» شبه فيوررية (نسبة إلى هتلر) – شبه دعوية نبوية. ورغم اختلاف الخبراء حول ما إذا أقدم هؤلاء على الانتحار الجماعي طوعاً أو أنهم شُرّبوا «كول إيد» المبرد والمشبع بسم سيانيد البوتاسيوم، فليس هنا يكمن الجوهر. الأكثر مرعباً هنا هو أن يكون هؤلاء الناس قد تدنوا إلى درجة من فقدان الصواب ليقيموا «الليالي البيضاء» (هكذا سميت التمارين العامة على الانتحار الجماعي التي كانت تجرى في معسكر اعتقال جونس) أو غيرها من البدع الخرافية ليسير الناس نحو حتفهم مستكينين».

أيها الطائفيون المتزمتون اعتبروا من التاريخ وكفى تزييفاً لوعي شعبنا وشحنه طائفياً. دعوا الشعب يعود إلى تقاليده النضالية الأصيلة والإبداعية البناءة، المتجهة باتجاه التاريخ لا عكسه. نعم، في تاريخها تحدثت الحركة الوطنية عن مختلف أشكال وأساليب النضال ومارستها. لكنها لم تقل لمناضليها يوماً سمموا أجواء الأحياء المكتظة بالسكان بدخان الإطارات، وقولوا في الوقت نفسه «يحيا الوطن»، أو دسوا السموم في مقالات وخطب الشحن الطائفي كما تدس في مياه الشرب في بعض الحروب، واهتفوا «يحيا الوطن»… أي وطن هذا الذي تريد بناءه دعوات كهذه؟!
 
صحيفة الوسط
30 اغسطس 2010