المنشور

إلى متى ستكابر إيران

‘‬السياسة ليست كشارع نيفسكي‮’.. ‬عبارة شهيرة كان أطلقها أحد عظماء صانعي‮ ‬أحداث القرن العشرين في‮ ‬تعبير بليغ‮ ‬عن أن البروغماتي‮ ‬وحده لا‮ ‬يرى في‮ ‬السياسة سوى خط شديد الاستقامة مثله في‮ ‬ذلك مثل استقامة شارع نيفسكي‮ ‬في‮ ‬العاصمة الروسية موسكو‮. ‬أما السياسي‮ ‬فإنه‮ ‬يرى في‮ ‬السياسة شيئاً‮ ‬أكثر تعقيداً‮ ‬وتركيباً‮ ‬انطلاقاً‮ ‬من نظرته الثابتة المتعددة الأبعاد إلى كل مرمى من مراميها‮.‬
هذا المفهوم العلمي‮ ‬المتراكم والمتجذر في‮ ‬تربة العلاقات الدولية عبر الممارسة التاريخية العاملة بالعبر والدروس والمعاني،‮ ‬لا‮ ‬يكاد‮ ‬يجد له مكاناً‮ ‬بين مرجعيات ومعايير مدونات سلوك القادة والساسة الإيرانيين سواء تعلق الأمر باستخدام هذه الأداة‮ (‬السياسة‮) ‬في‮ ‬الإدارة الكلية المجتمعية الداخلية،‮ ‬أو استخدامها في‮ ‬فضاء العلاقات الدولية الشاسع وتحديداً‮ ‬في‮ ‬علاقات إيران مع مختلف دول العالم‮.‬
ولعل من السهولة بمكان على أي‮ ‬مراقب متتبع للشؤون الدولية وبضمنها الشأن الإيراني،‮ ‬أن لا‮ ‬يجد في‮ ‬الخطاب الإيراني‮ ‬الموجه للخارج،‮ ‬العاكس إلى حد كبير الاتجاهات العامة للسياسة والدبلوماسية الإيرانية،‮ ‬سوى خطاب حافل بالتحدي‮ ‬والعنفوان الماسي‮ ‬المندفع والمزدحم بكم وافر من مفردات اللغة الثورية المتخشبة التي‮ ‬لا تستقيم مع الوضع السيادي‮ ‬المسؤول للدول المستقلة والمسجلة عضويتها في‮ ‬كافة المنظمات والاتفاقيات والمواثيق الدولية،‮ ‬فهي‮ ‬تليق أكثر بقادة حركات التحرر الوطني‮ ‬من الاستعمار وأنظمة الحكم المستبدة والطاغية‮. ‬وهي‮ ‬عموماً‮ ‬لغة لم‮ ‬يعد‮ ‬يستخدمها في‮ ‬عالم القرن الحادي‮ ‬والعشرين المتصل بعضه ببعض مادياً‮ ‬وروحياً‮ ‬رغم ممانعة الحدود السيادية الرسمية،‮ ‬سوى قلة قليلة من القادة السياسيين بعضهم لدواعي‮ ‬تكتيكية،‮ ‬استهلاكية محلية‮ (‬للأنصار والمريدين سواء ضمن القالب الرسمي‮ ‬أو ضمن الجبهة الأخرى المعارضة‮)‬،‮ ‬وبعضهم الآخر انطلاقاً‮ ‬من قناعات مبدئية أو إيمانية‮ (‬لاهوتية ما ورائية أو أيديولوجية أرضية‮).‬
هنا‮ ‬يذهب بعضنا،‮ ‬وهو محق،‮ ‬إلى أن السياسة الخارجية الإيرانية سياسة براغماتية‮.‬
هي‮ ‬نعم سياسة براغماتية وإنما من ذلك النوع من البراغماتية الأقرب إلى الأفعال وردود الأفعال الانفعالية ذات البواعث المتكئة على المناقبيات الخالصة من قبيل الأنفة والاعتزاز القومي‮ ‘‬الفوار‮’ ‬منه إلى العملانية‮ ‬‭(‬Practicality‭)‬‮ ‬التي‮ ‬تشكل الأساس الفلسفي‮ ‬للنظرية البراغماتية بمنشئها الأمريكي‮ ‬الأصل،‮ ‬من حيث تغليبها المصالح مقابل الايدولوجيا‮. ‬بهذا المعنى لا نكاد نرى أي‮ ‬أثر إيجابي‮ ‬لتمخضات ممارسة النهج البراغماتي‮ ‬من قبل القيادة الإيرانية بقدر ما نرى دفقاً‮ ‬جارياً‮ ‬من المواقف والخطابات السياسية الساذجة والشعوبية التي‮ ‬غلب عليها التخبط والتهالك والعفوية المرسلة في‮ ‬غالب الأحايين‮. ‬فأنت كمراقب محايد سوف‮ ‬يصدمك كم التهويش الذي‮ ‬يغلف ويطبع هذه‮ ‘‬البراغماتية‮’ ‬السياسية‮. ‬ولأن العبرة في‮ ‬الخواتيم فإن حصاد هذه‮ ‘‬البراغماتية البديعة‮’ ‬يتمثل في‮ ‬فقدان إيران لثقة دول الخليج العربي‮ ‬فيها،‮ ‬وتردي‮ ‬علاقاتها مع معظم البلدان العربية وفقدانها مؤخراً‮ ‬لإحدى أهم الدول الصديقة لها وهي‮ ‬روسيا،‮ ‬فضلاً‮ ‬عن ضيق دائرة علاقاتها الدولية نتيجة لاضطرار مزيد من دول العالم للنأي‮ ‬بنفسها عن الانخراط مع إيران في‮ ‬تعاملات اقتصادية وتجارية جديدة،‮ ‬ناهيك عن علاقات سياسية‮.‬
وتقتضي‮ ‬الموضوعية القول إنه ليس من الإنصاف نسبة فضل كل هذا المثال الذي‮ ‬انتهت إليه إيران على صعيد علاقاتها الدولية إلى الممارسات الطائشة والمتخبطة للقيادات الإيرانية المعنية بنسج علاقات البلاد مع العالم الخارجي‮. ‬فمما لاشك فيه أن الاتجاهات العدوانية في‮ ‬السياسة الأمريكية الأوروبية ذات الخلفيات الاقتصادية التوسعية والسياسية المتصلة بتوفير الدعم والحماية لإسرائيل لها دور حاسم في‮ ‬تدهور الوضع الدولي‮ ‬لإيران‮.‬
على أن هذا‮ (‬المناخ الدولي‮ ‬غير المواتي‮) ‬لإيران أدعى لأن تعتصم قيادات النظام الإيراني‮ ‬الحاكم بحبل جبهتها الداخلية وتصونها من أية تصدعات قد تكون ناجمة عن إهمال أو فساد أو ممارسات خاطئة‮. ‬بيد أن هذا لم‮ ‬يحدث،‮ ‬وإنما حدث عكسه حيث أدت سياسة النظام الشمولية إلى شق البلاد وأهلها بين موالاة ومعارضة وصل إلى ذروة تجسداته صيف العام الماضي‮ ‬على خلفية الانتخابات الرئاسية التي‮ ‬اتهمت المعارضة النظام بتزويرها لصالح مرشح النظام أحمدي‮ ‬نجاد‮. ‬ومع أن النظام تمكن في‮ ‬نهاية المطاف باستخدام القمع والاعتقال التعسفي‮ ‬والملاحقات البوليسية والمحاربة في‮ ‬الأرزاق،‮ ‬إلا أن النظام صار مكشوفاً‮ ‬في‮ ‬الداخل بجانب انكشافه الخارجي‮ ‬وأصبحت المعارضة للنظام متجذرة لها رموزها حتى من داخل النظام وقياداته من كبار رجال الدين الذين استداروا على النظام واتخذوا مواقف معارضة لسياساته الداخلية وتوجهاته الخارجية‮.‬
إيران تجد نفسها اليوم في‮ ‬وضع شبيه إلى حد كبير بالوضع الذي‮ ‬وضع نظام صدام حسين بلده والمنطقة فيه في‮ ‬تسعينيات القرن الماضي‮ ‬عندما ضاعف حدة أزمة انكشافه الداخلي‮ ‬بانكشاف خارجي‮ ‬نتيجة لطبيعته المغامرة والمتهورة التي‮ ‬واقعته في‮ ‬الفخ الذي‮ ‬نصب له‮. ‬خطاب متعنت ومتحدي‮ ‬موجه للخارج وسباق تسلح‮ ‬يعتمد سياسة حافة الهاوية‮ (‬على‮ ‬غرار ما كان اتبعه صدام حسين‮) ‬قبل القبول في‮ ‬اللحظات الأخيرة بعرض القوى المعادية والمتربصة‮. ‬ولذا فإن الاعتقاد السائد هو أن إيران إذا كان ساستها براغماتيين حقاً‮ ‬فإن طريق إثبات ذلك لا‮ ‬يتأتى إلا من خلال اعتماد الكياسة الدبلوماسية بديلاً‮ ‬للشعبوية السياسية التي‮ ‬لم تجلب سوى الويلات للشعوب والبلدان التي‮ ‬خبرتها،‮ ‬وقبل هذا وذاك الإتيان بفريق إداري‮ ‬كلي‮ ‬عالي‮ ‬يحسن وزن الأمور وتقييم واقع ومتغيرات المعطيات الجارية على الساحة الدولية ويتصرف على أساسها لا من خارجها.

صحيفة الوطن
28 اغسطس 2010