المنشور

الأزمةُ وصراعُ الإقطاعين في مصر (2)

الإخوان المسلمون مثل غيرهم من الفصائل السياسية اعتمد ظهورهم على ظهور الزعيم المطلق.
الزعيمُ المطلقُ المنتفخُ بذاته الهائلة العظيمة هو دكتاتور الشرق المستمر الذي يُنتجُ ظاهرات تكرار الأنظمة الاستغلالية المتوالية.
إن الجماعات الدكتاتورية تستندُ إلى أيديولوجيات منتشرة خاصة في سياقات (الوطنية ــ القومية) و(الدين) و(الاشتراكية)، ويمضون في البداية في حراك الحياة التقليدية واستثمارها ويكونون لذواتِهم تنظيمات واسعة، وقد جرى ذلك في الاخوان وفي الضباط الأحرار وفي مصر الفتاة.
إن أزمةَ الليبراليةِ المصرية المتجسدةِ في حزبِ الوفد الذي دخلَ مخاضاتٍ حادةً للتغيير مسئولةٌ عن عدم تغيير الهياكل الكبيرة للإقطاع خاصة في الزراعة وحياة النساء وعدم إقامة النظام العلماني، أي لم يقمْ الوفدُ بفصلِ الدين كما شكلته قوى الإقطاع خلال القرون السابقة، عن سلطة الحكم. وأدت الثلاثينيات إلى تعجيلِ ظهورِ الجماعاتِ الدكتاتورية واستغلتْ المعاهدات والصفقات بين الوفد والاستعمار لتروج لهدم الديمقراطية الليبرالية الواعدة.
وكان حسن البنا واحداً من هؤلاءِ الشموليين الذين استغلوا الأزمة، وهم يشكلون طواقمَ تابعة، ثم ينشرون دعايةً ويحاولون الوصول بها لمنافذ معينة لضربِ السلطة القائمة وتغييرها، خاصة عبر وسائل العنف والقوة، التي هي مفتاحُ التغييرِ في الشرق.
لكن قفزتْ قوةٌ شموليةٌ أخرى هي الضباط الأحرار، التي ورثتْ الإقطاعَ السياسي الملكي، وحلتْ محلَهُ وأخذتْ موقعَهُ لكن عبرَ تمددٍ واسع في أبنيةِ النظام كافة، فالنظامُ الملكي كان يبشرُ بتعدديةِ السلطات، وكانت الليبرالية الاقتصادية والعقلانية الفكرية تنموان بين الفئات الوسطى، فكانت ثقافةٌ ديمقراطيةٌ تنتشرُ بقوةٍ بين فئاتِ الشعبِ البسيطة، ولكن جاءَ النظامُ العسكري الشمولي الوطني وأوقفَ هذه العمليةَ ووسع الهيمنةَ السياسيةَ البوليسية وجمدَ تطورَ الفئات الوسطى فعرقلَ نمو الديمقراطية بشكل عام.
ومن جهةٍ أخرى فقد أوجدَ الرأسماليةَ الحكومية(القطاع العام)، التي قامتْ بعملياتِ تغيير اقتصادية واسعة، تقدمية، لكن الضباط الكبار هيمنوا عليها، وتحولوا عبرها إلى فئة بيروقراطية مهيمنة، فُوضعَ حجرُ الأساسِ للتنميةِ والفساد معاً.
إن الرأسماليات الحكومية في البلدان العربية الإسلامية لم تضعْ لأنفسها حتى هدف القضاء على الإقطاع، أي الإقطاع كظاهرات شاملة، وليس فقط تحجيم الإقطاع الزراعي، بخلافِ الرأسمالياتِ الحكومية الروسية والصينية وغيرهما التي هدّمتْ الإقطاعَ كلياً ونقلتْ المجتمعات المتخلفةَ لبداياتِ الرأسمالية المتقدمة. في حين حولت أنظمةُ الحكمِ العربية الرأسماليةَ الحكوميةَ إلى امتدادٍ للإقطاع، فخلقت تناقضات رهيبة.
وكانت تنظيماتُ الحكم من الاتحاد القومي حتى الحزب الوطني الديمقراطي هي تنظيماتُ هذه الطبقة التي تغلغلتْ في الهياكل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ووظفتها لخدمتها، ومن الدفاعِ عن أغلبيةِ الشعبِ العامل إلى استغلالِ هذا الشعب، ثم إلى نخرِ اقتصادهِ ونشرِ الفساد فيه، وجاءت فترتا الانفتاح الساداتية والمباركية من دون عودةٍ حقيقيةٍ لليبراليةِ والعلمانيةِ والديمقراطية، بل راحت الطبقةُ الحاكمة تفصلُ (البدلات) السياسية العصرية حسب الصراعات المؤقتة فمن توسيع دائرة الاخوان إلى محاصرتهم، وهما أمران يعكسان تجريبية النظام السياسية، كما راح الإقطاعُ السياسي الحكومي يتحول إلى رأسماليةٍ خاصة معششة في الوزارات الحكومية والاقتصاد العام ويلتهم الموارد.
وظهرت قضايا هائلة وصلت للمحاكم عن فساد الحزب الوطني ونوابه.
كان لابد لهذه الطبقة أن تحافظ على إرث الثورة المهلهل الذي هو في نخاعِ عظمهِ نظامٌ عسكري بوليسي، ولم تنفع الانتقاءات النفعية من الليبرالية أن تستر تلك العظام، رغم إطلاق الرساميل الخاصة بشكلٍ واسعٍ وتحت مظلةِ الدولة الأمنية، وراحت تستعير كذلك ملابس ممزقة من الديمقراطية وتضعها على الحكم، كالبرلمان والانتخابات التي تصعد الحزب الحاكم دائماً وفي كل المواقع.
كما أن العلمنة المصرية الرائدة تم دفنها، وتم استغلال الأديان بشكل صراعي بين أجنحة الطبقة الجديدة الواسعة التي تكونت من الفئة المهيمنة وهي عمالقة الحزب الوطني، ثم الفئة المضادة وهي عمالقة الاخوان، ثم فئات صغيرة هامشية في هذه الطبقة كالرأسمالية الخاصة الوفدية والليبرالية الجديدة.
وعبر تكون الطبقة الحاكمة من فئتي الحزب الوطني والاخوان المسلمين، تكون أزمة عميقة قد تكونت، فقد دخلَ الإقطاعُ الديني السياسي (الاخوان) إلى قمةِ السلطة منازعاً القطب السياسي الحاكم (الحزب الوطني)، وتمظهر ذلك في صراع الحزبين ووجود الأغلبية والأقلية في البرلمان، وفي وجود رأسمالية خاصة ذات وشائج قوية بالدولة ومؤسساتها السياسية والاقتصادية، ووجود رأسمالية خاصة أخرى ذات وشائج بالإقطاع الاجتماعي، وعبر التحدث باسم الإسلام والتعبير عن فقهه ورؤيته المؤدلجة لصالح الشمولية الدينية.
قوةٌ حاكمةٌ تهيمنُ على مؤسساتِ السلطةِ السياسية العسكرية ومجاريها في الحياة الاقتصادية الاجتماعية، وقوةٌ معارضةٌ تنافسُ وتصارع في الحياة الاقتصادية السياسية، وتتفردُ بالهيمنة على المرجعية الدينية.

صحيفة اخبار الخليج
28 اغسطس 2010