المنشور

مناقشة هادئة في المسألة التخريبية

سرني قيام الجهات الرسمية المعنية مؤخرا بالكشف عما تسببه أعمال التخريب في منشآت الخدمات العامة من خسائر فادحة يتكبدها المال العام المرصود للشعب بأسره بجميع فئاته، وهو ما ناديت به واقترحته غير مرة في مقالات سابقة قبل بضعة اشهر في هذه الزاوية حيث تناولت فيها المخاطر الجمة والعبثية لأعمال التخريب التي عادت منذ نحو اربع سنوات حتى استفحلت وأضحت ظاهرة ليلية مقيتة وبخاصة في القرى المنكوبة بها والشوارع الرئيسية العامة التي تمر بمداخلها، وعلى وجه الخصوص شارع البديع.
وكم تمنيت لو ان احصائيات الخسائر المعلنة اعلاميا اخذت كعناوين رئيسية في صحافتنا مصحوبة بصور لمظاهر التخريب للمنشآت التي تتحدث عنها ارقام الخسائر، وكذلك الامر فيما يتعلق بالصور الارشيفية المبثوثة للتلفزيون.
وحسب الارقام المعلنة فإن اعمال التخريب والحرق المتعمدين لمنشآت قطاع الكهرباء والماء كبدت المال العام خسائر بلغت اكثر من 13 الف دينار، اما ما انفق على تعزيز وسائل حماية تلك المنشآت لتبقى في منأى عن التخريب والحرق فقد بلغ خمسة ملايين دينار.
ولم يكن الرئيس التنفيذي لهيئة الكهرباء والماء عبدالمجيد العوضي يجانب الصواب حينما علق على هذه الخسائر المؤسفة التي تستنزف المال العام الذي يعاني اصلا صعوبات جمة بالقول: “إن الاموال والميزانيات التي تصرف في عمليات اصلاح أعمال التخريب كان من الاولى ان تصرف لتنفيذ المشاريع التنموية والخدماتية الموجهة لخدمة المواطنين”.
معنى ذلك بعبارة اخرى ان ما صرفته الجهات الرسمية المعنية على اصلاح التخريب كان في الغالب على حساب مشاريع تنموية وخدماتية اخرى منتظرة جرى ارجاء تنفيذها نظرا إلى الحاجة المستعجلة الاضطرارية للصرف على اصلاح ما خربه المخربون.
أما حرق الحاويات المتعمد خلال عامين فقط فقد كبد الميزانية العامة 363 ألف دينار، في حين بلغت خسائر الاشارات الضوئية خلال الأشهر الثلاثة الماضية فقط 25 ألفا و375 دينارا، وتكلفت صيانة الطرق المتضررة من اعمال حرق الاطارات والقمامات 400 ألف دينار.
وبطبيعة الحال فإن الخسائر التي أعلنت على ما يبدو على عجل ليست تفصيلية شاملة لتشمل الاضرار الفادحة التي تلحق بالمواطنين من جراء قطع الطرق وتعريض مصالحهم الحيوية المهمة للضرر كالمتوجهين الى المستشفيات والمراكز الصحية ومنهم حالات الحوامل والامراض الخطرة ومنهم المسافرون، دع عنك مخاطر اضطرار السائقين في كثير من الاحيان الى اختراق الشارع وسط اكوام الاطارات او الحاويات المشتعلة، ودع عنك ايضا ما يحدثه اتلاف الاشارات الضوئية من ارباك مروري يسبب العديد من الحوادث، هذا بخلاف التلوث البيئي للحرائق الليلية، ناهيك عن تراكم القمامات بلا حاويات وهو ما ينجم عنه اوبئة غير مأمونة العواقب على سكان اهل القرى والمناطق الجديدة المحاذية لها، ودع عنك المشهد الكئيب للظلام الدامس للشوارع ليليا.
ليس من قبيل المبالغة التأكيد ان اعمال التخريب العبثية التي تصاعدت خلال السنوات الاربع الماضية حتى استفحلت على النحو الذي نشاهده الآن هي الاسوأ تاريخيا منذ خمسينيات القرن الماضي، فحتى التسعينيات لم تشهد البحرين اعمالا تخريبية والتي كان جلها يتركز حينذاك في تفجير “السلندرات” واستهداف محلات واماكن رسمية وتجارية كالتي نشهدها الآن والتي باتت تسيء ليس الى الدولة فحسب – كما يتوهم المخربون – بل الى صورة شعب البحرين الحضارية وخلقه أمام العالم هو الذي جبل عليها قرونا عديدة حتى خلال اشد المحن السياسية والتاريخية.
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: ما هو السبيل لوضع حد لهذا الجنون من التدمير الذاتي والعبث اللذين طال أمدهما؟
قبل فترة قصيرة وتحديدا غداة التقاء سمو رئيس الوزراء وفدا من شباب واعيان قرية الشاخورة اشرت – في سياق مقال لي عن هذا الحدث – إلى ما يتمتع به شباب هذه القرية من عقلانية في التعبير عن المطالب والشكاوى الخاصة بالخدمات العامة لقريتهم من خلال سلوك الطرق والقنوات السلمية المشروعة، وبينت ان هذه التقاليد التي يتبعها شباب القرية اليوم وجلهم مؤطرون في مركز شباب الشاخورة الذي بني على سواعدهم وسواعد آبائهم انما ارساها هؤلاء الآباء من جيل شباب الستينيات والسبعينيات. والى جوار هذه القرية قرية اخرى هي “الحجر” وهي الاخرى شبابها يمقتون العنف والتخريب، فيما تقبع قرية ثالثة مجاورة تتوسط القريتين وهي اقرب الى شارع البديع حيث ترابط ليليا مفرزة من قوات الأمن بالقرب من احد المجمعات التجارية الجديدة المطلة على احد دوارات شارع البديع للحيلولة دون تمكين مجاميع من شبابها من اعمال التخريب والحرق الليلية. فما السبب في هذا التباين بين بعض القرى المتورطة مجاميع من فتيانها في اعمال التخريب فيما بعض القرى الاخرى المجاورة ينعم شبابها بالعقلانية؟ هنا بالضبط تأتي الحاجة الآنية القصوى الى تفعيل دور اعيان ووجهاء وشيوخ دين القرى المتورط مجاميع من شبابها في تلك الاعمال التخريبية المجنونة وذلك من خلال تكثيف وسائل التوعية بمختلف اشكالها وعلى نحو موسع داعم في مختلف المناسبات الجماهيرية والخاصة ومنها المناسبات الدينية.
صحيح كما في كل الدول العربية بلا استثناء التي مرت بأعمال شغب وعنف احتجاجية عادة ما تظهر دراسات تحلل اسبابها السياسية والاقتصادية والاجتماعية بل النفسية، وهي دراسات على اي حال مشروعة ووجيهة ولابد منها لتتكامل مع المعالجات الامنية ولتؤتي أكلها على المدى البعيد امنيا على نحو دائم، لكن بالنظر الى الظروف الراهنة الدقيقة التي تمر بها بلادنا فإن الصوت الذي يردد تلك الاسباب قبل ان يضطلع اصحابه المشار اليهم سلفا بمسئوليتهم الوطنية بالعمل بكل قوة وبكل جهد ممكن لعقلنة جموح فتيانها الأغرة المخربين يغدو لغوا “فلسفيا” كمن يتفرج على النار ويبحث عن اسبابها وهي مازالت مشتعلة في عقر داره.. أليس كذلك؟

صحيفة اخبار الخليج
22 اغسطس 2010