المنشور

الجغرافيا والصراع (3-3)

رأينا كيف تمتد خريطة الصراعات السياسية الاجتماعية في العالم الإسلامي، ورأينا كيف أن المناطقَ الجبليةَ والغابيةَ والبوادي والأريافَ تتمظهرُ بها الخروق الأمنية أكثر من غيرها بسبب الطبيعة الخاصة بها التي تجعل التمردات ممكنة وميسورة نسبيا.
لكن الصراعات واشتعالها لها سببياتٌ أخرى، وهي العجزُ العام عن قبول الديمقراطية الحديثة.
فالطبيعة ليست لها علاقة بهذا العجز، لكن الحكومات السائدة والحركات الدينية البديلة لا تقبل بالديمقراطية، مما يجعل حراك العالم الإسلامي السياسي حراك التأزم والتآكل والتحلل.
الأزمة بنيوية عميقة كما يقول علماء الاجتماع، وقد بيننا مراراً هذه الأسباب، ولكننا هنا نتتبع الجوانب العسكرية العنفية التي تنمو بشكل خطر.
ورأينا كيف أن لغات النار تنمو في تلك المناطق النائية، وتصعد حتى تتوقف على أبوابِ المدن والمناطق الثرية والسهلية، وتتسرب إليها بغرض تغيير طابع السلطات.
الإسلام دين ذو طابع عسكري خاصة في مرحلته المدنية، وقد قامت الحركاتُ الدينيةُ المحافظةُ باستثمار هذا الطابع وتوظيفه ضد المضامين النهضوية التقدمية التي طرحها الإسلام، أي استغلال الأشكال لأهدافٍ أخرى.
فغلبة الذكورية واستخدام القوة في الصراعات السياسية واقتطاع آيات من سياقاتها وتوظيفها في الصراعات، كانت من المظاهر القديمة الشائعة في أعمال العنف السياسية في التاريخ الإسلامي، لكن المستجد الآن في هذه السنوات قدرة أشكال العنف على التغلغل في المدن، منذ السبعينيات حين أطلق الرئيس السادات حراك الجماعات الدينية بشكل واسع، أو حين جندت القوى الأمريكية والعربية المحافظة جماعات الاخوان والسلفية في حرب افغانستان، وقد أتاح ذلك اختراق المدن العربية التي لم تشهد مثل هذه العمليات الإرهابية إلا بشكل نادر.
وقد طرح تصاعد عمليات العنف داخل المدن إشكاليات بناء هذه المدن نفسها على أسس غير ديمقراطية من العديد من النواحي، فراح العنف يستند إلى الفئات المهمشة؛ مثل سكان الضواحي الفقيرة، والقوى التي هي خارج الإنتاج والعمل، والمأزومين عامة. والمأزومون خامات جيدة للحراك الفوضوي، بخلاف العمال المنظمين والتجار وغيرهم.
وتتم عسكرة قوى اجتماعية من خلال استغلالِ عناصر معينة في الإسلام كما أوضحنا، كاستغلال النساء، عبر التركيز في المظاهر العبادية والملابس والخشونة، وتقريبهن من العسكرة، ومثلما يحدثُ للشباب عبر ترك مظاهر الحداثة في اللباس والعيش، مما يعني استغلال هذه الجماعات للتاريخ الإسلامي من أجل التجنيد وتنفيذ أهداف سياسية لتغيير الوضع في المدن، بسبب صعوبة التوغل العسكري فيها.
وفيما تنمو هذه العمليات تراوح الحكومات في أمكنتِها الاجتماعية والسياسية، فنجد التناقضَ الكبير على مستوى الحكومات كلها بوجودِ الصراعاتِ بينها وتفاقم التدخلات، وهي أمورٌ تؤدي إلى النزيف الأوسع، وهدر الثروات، كما حدث في حروب افغانستان الكثيرة التي سببها الأساسي تدخل الحكومات الخارجية.
أي أن الحكومات في العالم الإسلامي تقومُ بإعدادِ المسرح العام للصراعاتِ العنفية، ثم تعجزُ كلُ حكومةٍ عن تأطيرِ الصراع الوطني السلمي الديمقراطي النهضوي بين القوى الرأسمالية المهيمنة على الثروة الوطنية، أي أن هذه القوى سواء كانت رأسمالية حكومية أو رأسمالية أهلية مدنية أو دينية تتقاتل على الكراسي السياسية، التي لا تنهض من فوقها أبداً.
والثروة العامة لا تصل خيراتها إلى الجمهور العامل الذي ينتج أغلبها، مما يجعله غير مبال بتطور هذه المجتمعات.
والقوى العنفية التي تنمو من الجبال حتى المدن تعتمد على هذه التناقضات، وعلى عدم قدرة هذه القوى الحاكمة أو المعارضة في المدن على تأسيس ثقافة ديمقراطية مشتركة، وتعاون دقيق، وبناء، يقوم بتصفية المناطق العشوائية المتخلفة، وتطوير القوى المهمشة، ووقف استنزاف الميزانيات في الفساد والبذخ، ويجعل البرلمانات ساحات فعل وتغيير وليس ساحات استنزاف جديدة وصراعات تمزيقية للخرائط الوطنية.
بطبيعة الحال مثل هذا العجز الشامل في القوى السياسية الاجتماعية، لا تنسد الآفاق كليا فيه، فثمة عناصر بناء وتغيير، عناصر نفي لهذا السائد، ولكنها ضئيلة وتراكمها بطيء فيما الخرائط العامة تتآكل.

صحيفة اخبار الخليج
20 اغسطس 2010