المنشور

الترميز لدى عبدالرحمن منيف

عبدالرحمن منيف كاتبٌ محمومٌ بقضايا الأمة والتغيير، منفعل بشدة من الهزائم والتخلف، ينطلق في أعماله الروائية بحرارة شديدة، يستعين بالمواد الأدبية والتقارير والدراسات، ينقسم بين روايات تسجيلية حافرة في هياكل تاريخية صراعية سياسية كبرى، أو يبني هياكل قصصية متخيلة، لا تنفصل عن قضايا الأمة المتفجرة في لحظة تاريخية محتدمة بالصراع.
فهناك أعمال ملحمية ذات أبنية تسجيلية، وأعمال ذات أبنية ترميزية، الأولى هي الروايات الطويلة، والثانية هي الروايات القصيرة.
من الروايات القصيرة الترميزية رواية (حين تركنا الجسر)، المؤسسة العربية للدراسات والمركز الثقافي العربي، ببيروت.
ربما كانت هذه الرواية أشبه بمتاهة للقارئ، فأمامه رجل صياد يقطع البراري ومعه كلب، ويهذي طوال عمليات الصيد الخائبة بوحشية مفترسة.
الصياد زكي النداوي ترميز للإنسان العربي المكافح الفاشل والرواية عملية لهث ساخن داخله وحوله. السارد يضع القارئ في قلب الحدث – الشخصية بأسلوبية متوترة عالية:
(- اصرخي يا بنات آوى، اصرخي بفرح الأبالسة حتى تتشقق مؤخراتك النتنة، فالهزء الذي يمتلئ به الهواء لم يعد يهمني).
من أول فقرة يُدخل السارد القارئ في النفسية المريضة البشعة للراوي زكي النداوي، وإذا كان زكي هو السارد الذي يصف تجربته فإن هذا يضيق الدائرة كثيراً، فثمة مريض يتحدث، وهو لا يرى سوى بقعة صغيرة من الواقع، ويراها بهلوسة، ولهذا فإن القارئ يدخل نفسية الراوي ويرى من خلاله، فلا يكاد يرى شيئاً في هذا السرداب الروحي المفتت، المبعثر، الذي يمشي في الجدول الطولي الملتهب، حيث الصياد يجري وراء الطرائد، ولا يكاد يصطادُ شيئاً، ويزعم انه سوف يصطاد الطائر الملكي، ويلتقي صيادين آخرين في ركضه المحموم وراء الطرائد، وكلا الصيادين يمثل لحظة ترميزية ومعنى مختلفاً.
العلاقة الكبرى تتم مع كلب الصياد المُسمى وردان، الذي ابتلي بهذا الصياد نصف المجنون، والذي تتم مخاطبته طوال الرواية بأساليب متنوعة، أغلبها خطابات مباشرة ساخرة وغاضبة ولاعنة:
(التفت إلي وردان، وكأن هاجساً في داخله فضح الكلمات الداعرة التي تتسرب إلى ذاكرتي كمياه المطر… نحن اخوة يا وردان، نعم اخوة، وفينا شيء مشترك وصفات مشتركة). زكي هو المتحدث المرئي، والكلب موصوف من الخارج، يعاني كما يبدو معاناة شديدة، ولعنات السارد وغضبه لا يعطينا شيئاً عن الكلب، بل عن ذاته بومضات سريعة، أو واسعة حسب أهميتها، فهناك ابوه القوي، ممثل لتاريخ الأجداد الأقوياء، في حين يمثل زكي الجيل العربي الحالي الضعيف الفاشل المهزوم، الذي يهزم في معركة الصراع ضد القوى الأجنبية، ويمضي في دهاليز تعذيب الذات ومشروعات التحلل الفكري والحقد على النفس وتمزيقها، واستخدام أساليب الانهيارات المختلفة، وتغدو رحلةُ الصيد هذه أكبر مشروع تحلل لها، فهي تتذكر كيف هربت من المعركة، وكيف تركت الجسر للعدو، ثم جاءت تمارس بطولاتها على الطيور الضعيفة، وتهذي بدفاعها وغيابها وبنائها للجسر.
أكبر ضحية كان الكلب وردان، وحتى عملية الصيد التي جاءت لها، وملأت الصفحات للحصول على الملكة الطائرة، وتلتهب الرواية والصياد يجري وراءها ويطلق بقوة، ويرفعها إلى الأعلى ليرى إنه اصطاد بومة.
ويبدو ان وردان تعب بشدة من المعاملة الوحشية من قبل الصياد فيهرب في النهاية ويبدو هربه كانتحار مروع!
يقيم الروائي علاقة تجريدية، ترميزية عبر هذه المواد الحدثية والشخوصية المكثفة: الصياد، والكلب، والصيادان الآخران المعبران عن الذات العادية والذات الحكيمة المقدمة للمعرفةِ والنموذج لزكي من دون أن يستفيد شيئاً من هذا العرض، وهناك الجسر الغائب الذي تم الهرب عنه كرمز تجسيدي بين الأمة ومستقبلها المقطوع نظراً لوجود مثل هذا (البطل)، وحيث يقوم المقاتل الذكر بالهروب:
(العجز يسري في الدم، وسيأتي يوم لا ينسل رجال هذه الأمة إلا الأقزام والمشوهين، والأقزام المشوهون لا يعرفون إلا أن يموتوا رخيصين!)، ص.20
اللغة المتوترة الدرامية المتفجرة في كل جملة وصورة، واتساع الوصف للأشياء والنباتات والغابة والبرية، والولوج التحليلي الداخلي في النفس وصراعاتها واجتزاء ومضات حارة من مشاهد عيشها القديمة الموظفة في الصراع، كل هذا يجعل الصراع المجرد بين ذات الراوي المهزومة والعالم، والبناء الرمزي، شائقين ينبضان بحرارة وينفجران بمعنى المأساة التي يعيشها جيل الهزيمة المستمر.

صحيفة اخبار الخليج
17 اغسطس 2010