المنشور

ظواهر طلابية

لاحظ الملكُ الأردني الراحلُ، الملكُ حسين شيئاً غريباً متناقضاً يبعث على حيرته وأسفه فقال: إنني كلما بعثتُ طلبةً للمعسكر الشرقي عادوا إليّ مرنين مطيعين، وكلما أرسلتُ طلبةً للمعسكر الرأسمالي عادوا إليّ متصلبين مناضلين.
بطبيعة الحال لم يقرأ الملكُ الراحلُ إشكاليات التطور التاريخية، وهو رجلٌ نافذ البصيرة، دقيق الملاحظة، فما بالنا بالراصد التسجيلي البسيط؟
لم يقرأ الملكُ الإشكاليةَ العميقةَ فيما أسماه المعسكر الشرقي وحتى كذلك الدول العربية الوطنية و(التقدمية)، فهو ليس معسكراً اشتراكياً، هو أنظمةٌ رأسمالية عامة، غابتْ منها الحرياتُ والمراقبةُ الشعبية والصحافةُ الحرة الناقدة، وخضع لأدلجةٍ متضادة، فيها نضالٌ كبير مؤسس وفيها هيمنة شديدة، وفيها انتهازية واستثمار للجو في المكاسب الذاتية، وقد أوجد هذا التضادُ طلبةً في حالاتٍ عديدة مختلفة، بين الاستمرارِ في صلابتِهم الوطنية التي جاءوا بها وكرسوا أنفسهم للتطور في الدراسة، وبين التضحية الكبيرة كما كان يفعل الطلبةُ الفيتناميون الذين يتبرعون بجزءٍ من مخصصاتِهم لبلدهم الذي يجابهُ هجمةً استعمارية شرسة.
العديد من خريجي هذه الدول أحضر شهادات ومعرفة كبيرة، وواجه مشكلات خطيرة في دوائر الشرطة التي اعتبرتهم عناصر خطرة ومناضلين رهيبين، بينما هم طلبة فقراء وجدوا فرصةً للدراسةِ المجانية في تلك الدول، والبعض الذي يخاف منهم يتبرأ تبرؤاً كبيراً من هذا الانتماء المزعوم ويعترف ويكتب الكثير بتزوير أو بمحاولة لرشوة الشرطة والتعاون معها.
أما المناضلون الحقيقيون فيعانون كثيراً تسلط هذه الأدوات العنيفة ضدهم، التي تحاول تحطيمهم بأي شكل، وثمة أناس يتحطمون، وثمة أناس قليلون يقاومون إلى درجة رهيبة حتى الاستشهاد.
إن الأغلبيةَ طلبة عاديون جرتْ بهم الظروفُ في الحرب الباردة، وكانوا على المسرح المضاء بلافتات النضال المُبهرة، والعديد من الجمهور العادي ينبهرُ بهم ويرفعهم لمقام الأولياء، لكن التاريخ يكشف انهم أناسٌ عاديون مثل غيرهم من الطلبة لكن تسلطتْ عليهم في بلد الدراسة الايديولوجية الشعارية الصارخة، وتسلطت عليهم في بلدانهم الأصلية القبضاتُ الحديدية.
والتناقض في هذا ان البلدان (الاشتراكية والقومية التقدمية) أعطتهم فرصاً ذهبية ومعيشةً جيدة، فاسترخى البعضُ وظهرتْ إغراءاتٌ كبيرةٌ من اللهو والعلاقة بالدول، فحدثت أنانياتٌ وانتفاخات وتزييفات، مضادة للروح النضالية المطلوبة، في حين ان البلدانَ الرأسمالية التي استقبلتْ الطلبةَ العاديين غيرَ الرسميين لم تكرسْ نمطاً طلابياً سياسياً أو تميزه عن غيره، وواجه حقيقةَ الرأسمالية العارية الصلدة، بما فيها من استغلال بشع ومساواة كذلك ليس فيها أثرة أو تميز، وبما فيها من حرياتِ القولِ والتظاهر والنقد للمؤسسات الحاكمة وللجامعة وللسلطات والبرامج وهذا ليس هو المناخ في المعسكر الآخر.
وذلك القادمُ من البلدان (الاشتراكية والقومية التقدمية) اكتسبَ خوفاً من بلدانهِ العائد إليها وطمعاً في التسلق إلى مراتبها العليا كما شعر أثناء دراسته، وعاش ظروفاً انعكس فيها فسادُ تلك البلدان الشرقية عليه وبغيابِ الحريات والنقد فيها، فتناقضتْ الاراءُ والنفسيات وتشوه البعضُ منها، وظهرت الطبائعُ الحقيقية بعيداً عن الأدلجة المؤقتة، وتمددتْ بين صلابةٍ نادرة ورخاوةٍ منتشرة واسعة، وجاءت مطارقُ الدولِ التي ينتمي إليها بين الترهيب والترغيب، فلم تصمد إلا القلة، ولهذا يصدمُ البعضُ لهذا التناقض بين خريجي الكتلتين العالميتين المتصارعتين وقتذاك، وكأن العائدَ من الدول الاشتراكية ينبغي أن يكون جيفارا والعكس صحيح، وذلك بسبب الدعايات والمؤثرات الايديولوجية، ولا يُنظرُ للواقع الحقيقي، فهؤلاء طلبة عاديون تعرضوا لحالةٍ باردة عسلية ظنوها أبدية، ثم تعرضوا لحالةٍ نارية كاسحة، ففصلتْ الحَب عن القشور.
ولهذا كله وجدَ بعض خريجي الدولِ الرأسمالية أنفسهم يناضلون حقيقةً ضد الرأسمالية وهم الذين كانوا لا يخافون من العودة لبلدانهم، ويعملون بشكل قانوني للوصول إلى ظروفٍ أفضل، بينما وجدَ بعضُ خريجي الدولِ (الاشتراكية والقومية والتقدمية العربية) أنفسهم يناضلون من أجل الرأسمالية الخالصة وأحياناً بشعاراتٍ اشتراكية!
صار العديد من كوادر الدول الاستغلالية والتابعة من خريجي بلدان النضال السابقة، ولم تعطِ هذه الفترة نضالاتٌ عميقةٌ خاصة في الوعي والنتاجات الفكرية إلا فيما ندر وقد كتبها خاصة مناضلون في السجون وفي الخلايا الصامدة في الأزقة، أي أناسٌ عاشوا على اللظى وفي قلبِ المعاناة الشعبية والتضحية.

صحيفة اخبار الخليج
12 اغسطس 2010