المنشور

إنه موسم تحريك القضايا‮ »‬الجنائية‮« ‬الدولية‮! ‬

ما كادت محكمة الجزاء الدولية قبل أيام تجيب مدعي‮ ‬عام المحكمة لويس مورينو اوكامبو إلى طلبه بإضافة تهمة الإبادة الجماعية إلى لائحة الاتهام التي‮ ‬وجهها إلى الرئيس السوداني‮ ‬عمر حسن البشير قبل نحو عام،‮ ‬حتى بوشر في‮ ‬تسريب فحوى القرار الظني‮ ‬الذي‮ ‬ستصدره المحكمة الدولية المشكلة للتحقيق في‮ ‬اغتيال رئيس الوزراء اللبناني‮ ‬الراحل رفيق الحريري‮ ‬والذي‮ ‬سوف‮ ‬يدين‮ ‘‬عناصر‮ ‬غير منضبطة في‮ ‬حزب الله‮’‬،‮ ‬حسبما صرح بذلك أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله نقلاً،‮ ‬كما قال،‮ ‬عن سعد الحريري‮ ‬رئيس الحكومة اللبنانيـة،‮ ‬والذي‮ ‬من الواضح أن جهة ما قد أطلعته على فحوى الحكم قبل صدوره‮ (!). ‬ويوم‮ (‬الخميس‮ ‬24‮ ‬يوليو‮ ‬2010‮) ‬أعلن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة انه شكل طاقماً‮ ‬من خبراء دوليين للتحقيق في‮ ‬دعاوى انتهاكات إسرائيل للقانون الدولي‮ ‬خلال هجوم الجيش الإسرائيلي‮ ‬على أسطول الحرية في‮ ‬شهر مايو الماضي،‮ ‬وجاء في‮ ‬بيان المجلس أن ثلاثة خبراء سيشاركون في‮ ‬المهمة الدولية المستقلة لتحديد الوقائع والتحقيق في‮ ‬انتهاكات القانون الدولي‮’‬،‮ ‬وهم كارل هدسون‮ ‬‭-‬فيليبس‮ (‬من ترينيداد وتوباغو‮) ‬القاضي‮ ‬في‮ ‬المحكمة الجنائية الدولية من‮ ‬2003‮ ‬إلى‮ ‬‭,‬2007‮ ‬وديزموند دو سيلفا‮ (‬بريطانيا‮) ‬كبير المدعين في‮ ‬المحكمة الخاصة بسيراليون في‮ ‬عام‮ ‬‭,‬2005‮ ‬وماري‮ ‬شانثي‮ ‬ديريام‮ (‬ماليزيا‮) ‬من مجموعة العمل حول المساواة بين الجنسين في‮ ‬برنامج الأمم المتحدة للتنمية‮.‬
وفي‮ ‬نفس اليوم أيضاً‮ (‬الخميس‮ ‬24‮ ‬يوليو‮ ‬2010‮) ‬خَلُصت محكمة العدل الدولية‮ (‬ومقرها مدينة لاهاي‮ ‬الهولندية‮)‬،‮ ‬في‮ ‬رأي‮ ‬غير ملزم للدول،‮ ‬إلى أن استقلال كوسوفو الذي‮ ‬أُعلن في‮ ‬17‮ ‬فبراير‮ ‬2008‮ ‬من جانب واحد،‮ ‬أي‮ ‬من جانب ألبان كوسوفو،‮ ‬لا‮ ‬يشكل انتهاكاً‮ ‬للقانون الدولي‮.‬
إنها سيولة‮ ‬غير مسبوقة،‮ ‬كما هو واضح،‮ ‬في‮ ‬نشاط،‮ ‬أو بالأحرى تنشيط،‮ ‬جبهة أو سلاح القضاء الدولي‮ ‬من جانب من له اليد الطولى ومن له السطوة والنفوذ على مؤسسات القضاء الدولي‮ ‬لتحقيق‮ ‬غايات مصلحية بحتة لا علاقة لها البتة بتحقيق العدالة كما‮ ‬يزعم أصحاب السطوة والنفوذ على تلك المؤسسات ومعهم المتحمسون والواهمون اللاهثون وراء سراب تلك العدالة المغدورة‮.‬
لا اعتراض لدينا أبداً‮ ‬على ملاحقة المتورطين في‮ ‬ارتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية أو جرائم إبادة جماعية،‮ ‬سواء بالمشاركة الفعلية المباشرة أو بإحدى صور التواطؤ،‮ ‬وسواء تعلق الأمر بأناس عاديين أو حتى رؤساء دول وحكومات إذا توفرت الأدلة المادية الدامغة على إدانتهم من قبل قضاء تتوفر له الاستقلالية والنزاهة‮. ‬فالعدالة لا تتجزأ ولا‮  ‬تحابي‮ ‬ولا تميز بين صغير أو كبير ولا تخضع للتسييس ولا تتأثر بنفوذ خارجي‮ (‬خارج نطاقها‮) ‬فتجيء أحكامها إما منحازة أو توفيقية تمرر جزء من العدالة لأحد المتداعين‮ ‬غير المستحقين‮.‬
لكن؛ أوليس لافتاً‮ ‬أن تندفع الولايات المتحدة الأمريكية بحماس لتأييد إجابة محكمة الجزاء الدولية لطلب مدعي‮ ‬عام المحكمة لويس مورينو أوكامبو الخاص بإضافة تهمة الإبادة الجماعية إلى لائحة اتهام صحيفة الدعوى التي‮ ‬كان رفعها أوكامبو ضد الرئيس السوداني‮ ‬و20‮ ‬من كبار المسؤولين العسكريين والأمنيين في‮ ‬النظام السوداني،‮ ‬ومطالبة واشنطن للبشير لتسليم نفسه للمحكمة والمثول أمامها للفصل في‮ ‬الدعوى المرفوعة ضده،‮ ‬وهي‮ -‬أي‮ ‬الولايات المتحدة‭-‬‮ ‬التي‮ ‬رفضت وترفض حتى اليوم الانضمام إلى هذه المحكمة وترتيباً‮ ‬الاعتراف بها؟ ثم أين هي‮ ‬هذه المحكمة عن جرائم إسرائيل التي‮ ‬لا تحصى ولا تعد والتي‮ ‬لن‮ ‬يعدم أوكامبو الوسائل والدلائل لو أرادلجلب كبار مسؤوليها للمثول أمام المحكمة لمحاكمتهم بتهم ارتكاب مجازر ضد الإنسانية والتطهير العرقي‮ (‬في‮ ‬القدس‮) ‬والإبادة الجماعية‮ (‬حصار سكان‮ ‬غزة وتجويعهم‮).‬
وفيما‮ ‬يخص التسريبات الموجهة عن قصد والمعنونة بمكر لأكثر من طرف إقليمي،‮ ‬الخاصة بمنطوق الحكم الذي‮ ‬ستصدره المحكمة الدولية الخاصة المشكلة للتحقيق في‮ ‬جريمة اغتيال رفيق الحريري،‮ ‬والتي‮ ‬ذهبت لحد الجزم أن الاتهام سيوجه إلى‮ ‘‬عناصر‮ ‬غير منضبطة‮’ ‬في‮ ‬حزب الله اللبناني‮ ‬‭-‬‮ ‬فيما‮ ‬يخص هذا الموضوع أيضاً‮ ‬فإن من الواضح أن التسييس فيه قد بلغ‮ ‬مبلغه،‮ ‬فقد بات‮ ‬يستخدم لتحريك‮ ‘‬اختناقات دبلوماسية وسياسية‮’ ‬شرق أوسطية ضد الطرف/الأطراف المتهمة‮ (‬أمريكياً‮) ‬بالمسؤولية عن هذه الاختناقات‮. ‬فبعد أن كانت سوريا موضوعة في‮ ‬دائرة ضوء الشبهات تلميحاً‮ ‬وتلويحاً،‮ ‬وبعد أن استنفذ التلويح‮ ‬غرضه بعد إصابته بالفشل الجزئي‮ ‬على ما‮ ‬يبدو،‮ ‬ها قد تحول‮ ‘‬سيف العدالة‮’ ‬إلى أقوى حليف شرق أوسطي‮ ‬لسوريا ألا وهو حزب الله،‮ ‬وفي‮ ‬توقيت اختير بعناية لأغراض المساومة والابتزاز بعد أن تعذر فك عقدة‮ ‘‬المباشرة‮’ (‬المفاوضات المباشرة‮). ‬أما وقد تحقق الغرض من التلويح بورقة المحكمة وحصل الأمريكيون والإسرائيليون على مبتغاهم في‮ ‬استئناف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية المباشرة،‮ ‬فإن الراجح أن‮ ‬يعاد‮ ‘‬سيف العدالة‮’ ‬إلى‮ ‬غمده لحين الحاجة إليه مرة أخرى‮. ‬أما فيما خص قرار مجلس حقوق الإنسان القاضي‮ ‬بإنشاء لجنة دولية للتحقيق في‮ ‬جريمة الهجوم الهمجي‮ ‬الإسرائيلي‮ ‬على أسطول الحرية،‮ ‬فهو لا‮ ‬يعدو أن‮ ‬يكون ذراً‮ ‬للرماد في‮ ‬العيون وورقة صفراء لا قيمة لها،‮ ‬ذلك أن تقرير اللجنة سينتهي‮ ‬في‮ ‬مجلس الأمن الدولي‮ ‬حيث‮ ‬ينتظره الفيتو الأمريكي،‮ ‬ناهيك عن أن مرتكب الجريمة‮ ‘‬إسرائيل‮’ ‬رفضت قيام اللجنة من الأساس واحتقرت الجهة التي‮ ‬شكلتها‮. ‬ومع ذلك كان لابد من إنشاء هذه اللجنة لتحقيق أغراض دعائية وإظهار الأمم المتحدة بما هي‮ ‬ليست عليه‮. ‬أخيراً‮ ‬وليس آخراً‮ ‬فإن حكم محكمة لاهاي‮ ‬في‮ ‬خصوص إقليم كوسوفو،‮ ‬لا‮ ‬يعدو أن‮ ‬يكون تتويجاً‮ ‬للمخطط الغربي‮ ‬لتفتيت‮ ‬يوغسلافيا إلى دويلات صغيرة على أساس عرقي‮ ‬وديني،‮ ‬ولأن الحكم الصادر في‮ ‬هذه القضية‮ ‬يعد سلاحاً‮ ‬ذا حدين،‮ ‬من حيث أنه‮ ‬يفتح الباب أمام الأقليات المتحفزة للاستقلال داخل أوروبا الغربية نفسها مثل الأقلية الباسكية والكاتالونية في‮ ‬اسبانيا،‮ ‬فقد حرص‮ ‘‬مخرجو‮’ ‬الحكم على صياغته بطريقة تؤدي‮ ‬الغرض المتوخاة منه وفي‮ ‬ذات الوقت لا تحفز الآخرين على الخيار الكوسوفي،‮ ‬حيث نص الحكم على أن استقلال كوسوفو الذي‮ ‬أعلن في‮ ‬17‮ ‬فبراير‮ ‬2008‮ ‬لا‮ ‬يشكل انتهاكاً‮ ‬للقانون الدولي،‮ ‬متحاشياً‮ ‬الحكم الملزم بشرعنة هذا الاستقلال‮. ‬بهذا المعنى تكون القوى الغربية النافذة في‮ ‬مؤسسات صناعة القرار الدولي،‮ ‬قد اختارت الزج بمؤسسات القانون والقضاء الدولي‮ ‬في‮ ‬أُتون صراعاتها ومناوراتها المتصلة بمصالح شركاتها ومراكز رؤوس أموالها دون الالتفات إلى‮  ‬ما‮ ‬ينجم عن ذلك من إضرار بمصداقية ديمقراطيتها وشعاراتها الطنانة‮. ‬عُرف عن الديمقراطيين في‮ ‬الولايات المتحدة إجادتهم لما‮ ‬يسمى‮ ‘‬بالدبلوماسية الناعمة‮’ ‬التي‮ ‬قد تفوق في‮ ‬شراستها شراسة وعدوانية‮ ‘‬دبلوماسية البوارج‮’ ‬البوشية‮. ‬فالرئيس الأمريكي‮ ‬الأسبق عن الحزب الديمقراطي‮ ‬جيمي‮ ‬كارتر وإدارته،‮ ‬هما من اخترعا‮ ‘‬سلاح حقوق الإنسان‮’ ‬لاستخدامه في‮ ‬الصراع ضد الاتحاد السوفييتي‮ ‬آنذاك،‮ ‬سيما في‮ ‬عام‮ ‬1980‮ ‬لتحريض الدول على مقاطعة الألعاب الأولمبية التي‮ ‬أقيمت في‮ ‬موسكو عام‮ ‬‭.‬1980‮ ‬هذا‮ ‬يعني‮ ‬أننا من الآن فصاعداً‮ ‬سنشهد مزيداً‮ ‬من توريط القضاء الدولي‮ ‬واستخدامه أداة ابتزاز وإرهاب ضد الدول والأفراد سواء بالحق أو الباطل،‮ ‬متى ما اقتضت الأمور تصعيد الضغط على الهدف‮!‬
 
صحيفة الوطن
7 اغسطس 2010