المنشور

قاطرة أم مقطورة

لم تكن الثقافة قاعدة قيام الاتحاد الأوروبي، إنما الاقتصاد. بشكلٍ عام لم يجر النظر إلى الثقافة بوصفها قائداً للوحدة أو القاطرة التي ستأخذها للمستقبل، وإنما جرى التعويل على الاقتصاد. أدرك الأوروبيون في مخاض مفاوضاتهم الطويل أن السوق الأوروبية المشتركة هي التي ستؤسس لقيام كيان أوروبي وحدوي.
سيكون الاقتصاد هو القاطرة، وكل ما عداها سيكون مقطوراً، تجره عربة القيادة حيث يقع الاقتصاد، وما السياسة بتعبير فيلسوف عاش بين القرنين التاسع عشر والعشرين الا التعبير المكثف للاقتصاد.
لكن حذار من الاستخفاف بالعامل الثقافي، واعتبار الثقافة، شأنها شأن سواها من الأمور والظواهر، مقطورة تجرها عربة الاقتصاد.
لم يكن بوسع الأوروبيين أن يذهبوا في الوحدة الثقافية القسرية، لأن جوهر الثقافة هو التنوع، والتنوع لا يمكن الغاءه بالقسر.
أكثر من ذلك فان الثقافة ليست الشعر والرواية أو التعبيرات الأدبية الأخرى، فهي أوسع من ذلك بكثير، أنها التاريخ بكل ثقله ووطأته، ففي القارة العجوز فسيفساء من اللغات والعادات والتقاليد والأديان وميراث من الحروب الدينية يمتد عمرها لألف عام.
والأوربيون يخشون على ثقافتهم وهوياتهم من هيمنة النموذج الثقافي الأمريكي الزاحف عبر السينما والميديا المتفوقة والوجبات السريعة، وهي خشية تتبدى أكثر مما تبدى في الحساسية الثقافية الفرنسية الأكثر صراحة ووضوحاً في التعبير عن نفسها، لكنهم بالمقابل يضمرون تناقضات بينية في المجال الثقافي مردها ذلك التنوع الخصب في اللغات وأشكال التعبير والفولكلور والعادات وما إلى ذلك. علينا الوقوف تحديداً أمام اللغة. ويمكن الاستشهاد بمثال من خارج أوروبا، من الهند البعيدة عنها، فلو أن طاغور كتب ما كتب بالانجليزية لما كان طاغور الذي قدمته الهند إلى الثقافة الانسانية كلها. كان سيصبح شاعراً متميزاً بالانجليزية، لكن لن يجري النظر إليه على انه ممثل عظيم للثقافة الهندية، العظيمة هي الأخرى. باحث هندي كتب مرة أنه ما من شيء أعاق تقدم الهند السريع وحال دون وعيها لذاتها أكثر من الخسوف الذي تعرضت له اللغات المتعددة للهنود، لصالح هيمنة لغة المستعمر البريطاني، وعلينا هنا تذكر أطروحة ادوارد سعيد بهذا الصدد، وهو يطبق مقولات غرامشي على الهند.
هل يمكن لمثل هذا الخسوف أن يحيق بالتعدد اللغوي في أوروبا، إذا ما مضت القاطرة الاقتصادية بسرعتها المعهودة، أم أن الثقافة ستقاوم بعناد كل من يريد أن يجعل منها مقطورة؟
 
صحيفة الايام
7 اغسطس 2010