المنشور

باكستان.. دولة القبائل العسكرية (1)

تشكلت باكستان وبنجلاديش التي كانت تعرف باسم باكستان الشرقية من هيمنة القبائل المغولية، التي كونت حكم القبائل العسكرية الاقطاعية على جمهور العامة.
توقف الغزو الإسلامي القبلي عند حدود الهند الشمالية فلم يستطع التوغل في عمق الهند، حيث الشعوب الهندوسية الكثيفة، فغدا المسلمون خاصة في باكستان الحالية مقر البداوة.
لعب المغول والترك دور تشكيل الشمال الهندي فكانت العسكرية هي أداة التكوين.
إن الأحكامَ الشرعية النصوصية والأفكار العامةَ عن الوجودِ المصنوع من إلهٍ واحد، والمعتبرة إسلامية لم تكن مقبولة للجمهور الهندوسي المتعدد الشرائع والتعددي وذي الآلهة الكثيرة، وكان هذا يشيرُ لمقاربةِ الهندوس للتنوعِ أكثر من المسلمين، نظراً لضخامةِ الوجودِ الزراعي الفلاحي عند الهندوس، وتغلب البداوة الصحراوية على المسلمين، ولكن كانت هناك مقاربة اقطاعية لدى الطبقات العليا المسيطرة في أنظمةِ الهيمنة على الفلاحين والبدو جميعاً فتظهر بشكل أمراء ومهراجات، لدى كل من المسلمين والهندوس، وكان الاستعمار البريطاني يعتمد على التحكم بهذه الطبقة وإعطائها مقاليد حكم الإقاليم، وعلى إتاحة حرياتٍ اجتماعية ودينية جزئية، بغرضِ نشوب الصراعاتِ والهيمنة على الجميع.
وهكذا فإن الباكستانيين في باكستان الحالية أم في بنجلاديش كانت لهم جذور عسكرية قوية بسبب الأصول المغولية والبدوية، حيث شكلت الفتوحات الإسلامية العسكرية ذلك الشريط الشمالي، وجذبت القبائلَ التي فهمتْ الإسلامَ بهذا الشكل العسكري الغازي، وهو الذي يلائمُ نمطَ عيشها. فعبر القوة البدوية التي عاشتْ فيها فهمتْ الإسلامَ بهذا الشكل وكرستهُ على هذا النحو. لقد رأتْ قبائلَ على غرارِها تغزو وتنتشرُ في العالم وتشكلُ دولاً، فآمنتْ بأن هذا هو دين العلو في الأرض.
في حين عاش الهندوس على الزراعة والعيش في القرى وعبر التعدديات المختلفة، وعلى النقيض من البداوة كرهوا العنفَ والغزو.
فتشكل قسمان متناقضان في القارة الهندية، حسب جذورهما التاريخية، ورغم الصراعات والخلافات فإنهما وجدا أرضيةً مشتركة وتداخل المسلمون والهندوس وعاشوا في حضارات متنوعة متجاورة، وكانت زمنية النهضة التحررية الوطنية قد أوجدت بعض الوحدة الديمقراطية المهمة التي لم تتصل.
وقد وجدَ الاستعمارُ البريطاني ان أدواته لتحجيم والسيطرة على الحركة الوطنية الهندوسية الإسلامية المشتركة محدودة لضخامة حضورها وكثافة الملايين المؤيدة لها، ورأى ان الثغرةَ الكبرى هي استغلال الصراعات الدينية، وخاصة بين المسلمين والهندوس وتفجيرها، وعدم جعل القارة الهندية قوةً بشرية سياسية كبرى، فلم يكن ثمة أهم من استغلال التمايز العميق بين الديانتين، وتأجيج النزعات العسكرية والقومية والقبلية لدى المسلمين، وتفجير التعصب القومي الهندوسي، وتم ذلك من خلال عناصر سياسية صغيرة تصاعدت عبر السنين، ومن خلال تضخيم الغرور لدى القادة الدينيين.
انجرت القياداتُ الدينيةُ بشكل أكبر لنزعات التعصب والانقسام، فيما كان غاندي توحيديا علمانيا هنديا كبيرا، ورفض إلى آخر لحظة عملية هدم الوحدة الوطنية بين الهنود، ودفع ثمن ذلك من حياته، فتم اغتياله من قبل متعصب هندوسي.
لقد أحست هذه القيادات الدينية بهامشيتها مع بقاء الهند موحدة، وجرتْ عوامَ المسلمين لمغامرة كبرى، وذهب الملايين ضحية لهذا الانقسام وهم ينتقلون من قارة إلى أخرى، وعبر الحروب الدينية.
يعبر المفكر الجزائري الإسلامي مالك بن نبي عن هذه الكارثة بالقول: “إنّ باكستان في حقيقة الأشياء، لم تكن إلا الوسيلة التي أعدتها السياسة المعادية للإسلام التي تمتاز، بها بصورة تقليدية، أوساطُ المحافظين الانجليز، أعدتها من أجل إحداث الانشقاقات المناسبة في جبهةِ كفاحِ الشعوب ضد الاضطهاد الاستعماري”.
ويضيفُ بلغةٍ قاسية: “إنه مكر يبلغ ذروته، إذ استطاعت انجلترا بهذه الطريقة أن تترك الهندَ في حالةِ تمزقٍ نهائي، إذ لا يفرق بين المسلمين والهندوس حدود جغرافية لا تستطيع انجلترا تلفيقها مهما كانت براعتها في التلفيق، ولكن يفرق بينهم حدود من الأحقاد ومن الدماء، ذهب ضحيتها الملايين من المسلمين والهندوس، كانوا ضحية المذبحة التي زجتهم فيها المخابرات الانجليزية في الوقت المناسب”.
في ذات الوقت التي تشكل وتورط المخابرات البريطانية أقساماً كبيرة من اليهود في الشرق العربي بدولة إسرائيل، ظهرتْ دولة باكستان بجناحين متباعدين هما دولة باكستان الشرقية ذات الأغلبية ودولة باكستان الغربية ذات الأقلية، لكن الأخيرة هي التي حكمت واستبدت وفرضتْ لغتَها القومية، بسبب القوى القبلية العسكرية الكبيرة فيها، فيما غدت باكستان الشرقية دولة فلاحين، فهيمن البدو الباكستانيون مرة أخرى على اخوتهم المسلمين الفلاحين الذين ثاروا للدفاع عن لغتهم القومية ومصالحهم المستقلة بعد ذلك وانفصلوا فظهرت جمهورية بنجلاديش.
تشكلت باكستان عموماً من كياناتٍ غيرِ منسجمةٍ وقوميات وقبائل متعددة، لا يجمعها التطور الديمقراطي الطويل المشترك، ولا حتى اللغة بل الوعي المذهبي الإسلامي النصوصي، وفي عمق هذه الحرفية كانت هناك الهيمنات العسكرية والسياسية القبلية والارستقراطية.

صحيفة اخبار الخليج
24 يوليو 2010