المنشور

فضل الله.. هل يُرد الاعتبار إليه؟ (3-3)

في ضوء ما عرفناه في اليومين الماضيين من خصال ومناقب تميزت بها شخصية المرجع الديني العربي الراحل السيد محمد حسين فضل الله، وفي ضوء ما تبوأ من مكانة واحترام وتقدير لدى اوساط اسلامية وعالمية خارج طائفته، وفي المقابل في ضوء ما واجهه من عنت وهجوم وتشويه لآرائه ومواقفه في اوساط مرجعية ونخبوية وعوام داخل طائفته، فإن السؤال الجدير طرحه هنا: هل نشهد اليوم الذي تجرى فيه اعادة الاعتبار لهذه الشخصية الدينية الفذة ولو بعد مماته ويجرى كذلك رد الاعتبار لاعماله الفقهية والفكرية؟
في الواقع وكما اسلفنا القول إنه من الصعوبة بمكان وبجرة قلم واحدة ان تتغير آراء ومواقف خصوم فضل الله بزاوية 180 درجة بين عشية وضحاها ازاء آرائه ومواقفه وفتاواه، سواء المحقة منها التي اثبتت الايام والممارسة صحتها ام حتى التي حملت بالتشويه اكثر مما تحتمل، فالمسألة بحاجة الى وقت حتى تنضج الظروف الموضوعية والذاتية التي تسمح بمراجعة موضوعية شاملة متكاملة لأفكار وآراء “السيد” وفتاواه وبخاصة في ظل الوضع الحالي المعقد الذي يمر به الشيعة وعلى الاخص العرب منهم في كل الاقطار التي ينتمون اليها وكذلك بالنظر ايضا إلى التأثير الكبير الذي تمارسه الآلة الاعلامية الايرانية الجبارة على افئدة وعقول قطاعات واسعة من عوام الشيعة ونخبها السياسية والدينية.
لكن في تقديرنا ان رد الاعتبار للفقيد الراحل ولافكاره النيرة التي ينبغي الاستفادة منها على اوسع نطاق في صفوف طائفته بعدما ظلت محاصرة ومعزولة ومهمشة من قبل الاوصياء على عقول الناس لا يمكن ان يتحقق ما لم يضطلع انصاره ومريدوه ومحبوه بهذه المهمة – الرسالة الجليلة وما لم ينحوا جانبا عنهم نزعة ايثار الصمت والمهانة تجاه من اساءوا الى الراحل ايما اساءة، وما لم يهموا بجمع اعماله ونشر افكاره وتبسيطها على اوسع نطاق، وبقدر ما يحققون في رحلة الالف ميل الرسالة الملقاة على عاتقهم بعد رحيل “السيد” بقدر ما يقربون اليوم الذي تتم فيه اعادة الاعتبار اليه ولو بأدنى حد معقول لتبيان ما له وما عليه بموضوعية منصفة ولا شك في أن كفة ميزان ايجابياته وادواره الفكرية والفقهية الثمينة المهمة هي الارجح.
والحال ان الذين يجدون انفسهم أنهم الملقى على عاتقهم هذه المهمة من مشايخ ومراجع ومثقفين لن يستطيعوا تحقيقها ما لم يسيروا على نهج فضل الله فكرا وممارسة ولعل من المفيد هنا ان نعيد الى الاذهان ثلاث خصال تتميز بها شخصيته الى جانب الخصال الاخرى المعروفة عنها:
الأولى: تبحره الذي لا يكل في بحور المعرفة بشتى انواعها وحقولها، وقد عرف عنه أنه قارئ نهم. واتذكر انه في احد الحوارات التلفزيونية استنتجت من حديثه عبر برنامجه اليومي أنه لا ينام سوى اربع ساعات فقط يوميا، وانه دقيق للغاية في ضبط برنامجه وعدم اهدار وقته وهذه من خاصية كبار المفكرين.
الثانية: ميله الى الزهد في الحياة ومحبته العظيمة للفقراء والمحرومين والمساكين وتبنيه بكل صدق قضاياهم، وهذا سر ما حققه من نجاح كبير في العمل المؤسسي الخيري الذي ارتبط باسمه وتميز بالشفافية والتحصن ضد آفة الفساد الى اكبر حد ممكن مما اكسبه شعبية واسعة في اوساط شرائح كبيرة من بسطاء الناس.
الثالثة: تمتع شخصيته بحد ادنى معقول من العقلانية، ومحاربة الجهل والخرافة المرتبطين بالدين والتقاليد، وهنا يمكن فهم محاربته التقاليد والبدع التي لصقت بعاشوراء ومنها التطبير، وكذلك تبنيه أفضل طريقة علمية تتوافق وصحيح الشريعة لتحديد هلالي رمضان وشوال وسائر الشهور العربية.
وبالتالي فما لم يقيض لأحد من السائرين على نهجه او المتخذين منه قدوة إلهامية الذين يعدون انفسهم امتدادا لمرجعيته ان يجسدوا في حياتهم الخاصة والعامة تلك الصفات الثلاث في شخصيته المتقدم ذكرها او على الاقل تحقيق اكبر قدر ممكن منها فلن يستطيعوا الايفاء بالرسالة الملقاة على عاتقهم بالسير على دربه روحا وعملا والاسهام في تهيئة الارضية والاجواء لرد الاعتبار اليه ولأعماله الفقهية والفكرية المغيبة او المشوهة في خطابات الآخرين.
وعلى سبيل المثال – لا الحصر – فلما كان هلال شهري رمضان وشوال من المسائل التي تقسم الأمة بعدم الاجماع على الرؤية بل تقسم العائلة الواحدة فلعل تصدي مريديه وانصاره ومؤيديه للدفاع بكل صلابة وجرأة عن رؤيته الفقهية المستنيرة والصائبة في اعتماد الطريقة الفلكية والعمل على توعية الناس بها وحشد اكبر عدد منهم خلفها هي من ابسط معالم الوفاء لأفكار مدرسته الخلاقة وابقائها حية على الدوام وتجديد ما هو بحاجة الى تجديد منها لتواكب العصر.
ومن اسف فإن العرب على اختلاف تياراتهم السياسية – وكما برهنت تجاربهم التاريخية – لا يتنبهون او يستيقظون الى ما ارتكبوه من اخطاء وظلم بحق رموزهم النيرة والكبيرة في اي مجال من المجالات السياسية والثقافية او الدينية الا بعد رحيل هذه الرموز.. هذا اذا افاقوا من سكرة اخطائهم وحاولوا الاستفادة مما خلفته تلك الرموز من ارث سياسي او ثقافي او ديني او فني!

صحيفة اخبار الخليج
23 يوليو 2010