المنشور

” الجمباز السياسي ”


لكي تكون لاعبا ماهرا في الجمباز السياسي ’فان الضرورة تقتضي أن من يمارسها ويتقنها هو أيضا ’’بهلوان سياسي’’ ولكون البهلوان الجسدي رياضيا ماهرا في الحركات الصعبة معتمدا على تقنيات عدة وتمرين شاق ’ فانه من الجانب الآخر اقرب للمشعوذ الكلامي الذي يجيد حياكة الأشياء مع نوع من التضليل والادعاء والحيلة ’ فتارة هناك حيلة الكلام وحيلة الفعل وحيلة البهلوانية المتعددة المواهب’ ولكي لا يمتد كلامنا عن المشعوذ على حساب قرينه ’’الجمبازي في عالم السياسة’’ اذ نستعد كما كنا دائما نستعد في المناسبات ظهور الشخصيتين لنا على المسرح السياسي ’ كلما تطلبت المناسبات حضوره المعنوي او المحسوس والعملي ’ فها نحن ندخل مرحلة الاستعداد للدورة الانتخابية الثالثة ’ وهي بحاجة الى كثافة دعائية واستعراض للمعارف والمعلومات وتوظيف للمنطق والأوهام ’ واستدرار عاطفة وانفعال الناس’ من بوابة همهم اليومي ومن نافذة أحلامهم المنتكسة ’.
 لهذا تصبح خطابات الجمباز السياسي تحريضية ودعائية وبهلوانية بامتياز سياسي! وبين ركام اللاعبين هناك الصغار منهم والذين يصعدون حلبة القفز ولكنهم سرعان ما يسقطون بعد فقدان حالة التوازن الممكنة والمطلوب إجادتها ’ فيما يواصل كبار اللاعبين الديماغوجية تارة والبطولية تارة أخرى ’ لكي ينتزع من بين أظافر الجمهور عطفهم وتصفيقهم.
 
وبما ان التصفيق حالة حماسية لمعاناة غامضة فهي لا تعكس بالنتيجة حقيقة حجمها الفعلي ’ فهناك من بين المصفقين عشرات لا يجمعهم لا حجم الهم ولا حجم الفعل ولا حتى الأطوار والطباع والأمزجة ’ مما يجعل المعادلة السياسية صعبة عند لحظة التصفيق ’ فكثيرا ما حضرت ندوات وجدت فيها عالما يصفق فأسأل نفسي لماذا لا تصفق أيضا فحشر مع الناس عيــد!! غير أن العقل يشدك للوراء بعمق نحو أسئلة اكبر لماذا نظل للأبد نصفق ’ فيما العالم الآخر (الغربي والأوروبي والآسيوي) يصفق نادرا وإذا ما صفق يصفق قليلا ودون حماس ’ وحدهم الفنانون يحظون في جوائز الأوسكار بتصفيق شديد وبعض قادة الانتخابات في حشد جماهيري ’ ولكن من النادر ان يصفق عالم القاعات المغلقة بشكل مدو ’ فيما نحن نصفق دون توقف حتى نكتشف إننا نصفق لأنفسنا بنوع من السخرية التراجيدية.
 
ما يحرك نوازع دعاة الجمباز السياسي خفايا ذاتية ومطامح عدة ’ وليس بالضرورة ان تكون المناصب هي كل شيء اذ لا تستهويهم تلك الأشياء بقدر ما يتوقون إلى أصابع الجمهور التي تومئ إليهم في الشارع ’’ هاهو البطل قادم! ’’ هكذا يتوهم ان هناك سحرا يحيطه وعالما يطوقه بالورد والرياحين ’ ولكن مجرد الابتعاد عن دائرة المعارف الضيقة سيجد انه مجرد شخصية اقل شهرة من بضاعة في سوق الاعلانات المعلقة في شوارع المدينة.
 
وطالما الوعي مازال طفلا يحبو ’فإن البهلوان السياسي يجد له مرتعا خصبا في المقاهي والمجالس والمنتديات ’ اذ نلاحظ مع تجربة مرحلة الإصلاح السياسي والانفتاح الديمقراطي برزت في مجتمعنا ظاهرة الندوات والاجتماعات ناهيك عن الورش التي تقيمها الجمعيات والمؤسسات الرسمية والأهلية ’ حتى باتت صحفنا تغص بها كل يوم وعليك متابعتها بعنفوان جسدي وصحة شاب في عمر العشرين يركض من زاوية الى أخرى ’ او رجل بدت له الحياة فارغة والحياة الاجتماعية كل شيء’ فهناك في تلك الملتقيات يعبر عن مشاعره الفياضة وحماسه المفرط إزاء هذه الجمعية او تلك ’ ولكن علاقته بالمعرفة والكتاب صارت اقرب للنسيان.
 
ومرض الجمباز السياسي ’’ والبهلوانية ’’ هو الاستعراض ’ وليس ضروريا أن يسأل نفسه فيما يكرره من معلومة في عالم اليوم ’ فهناك الفائض منها وهناك الغث والسمين ايضا ’ فيما هو يظل يصر على تقديم وجبة باردة من المعلومات لا تزيد طبيعتها عن تلك اللغة التحريضية لجمهور جديد نسى تاريخ بلاده ونسى كل الأبجديات الصغيرة والكبيرة ’ محاولا الجمباز السياسي النبش في مفاهيم لازالت تتبلور بفعل قانون التطور وليس بفعل قوة الدفع الذاتية ’ فما تحتاجه ليس البحرين وحدها بل ودول مجلس التعاون برمته عقود اخرى لتجاوز عثراتها الكبيرة والصغيرة دون الحاجة ان يقول لك المشعوذ انظر الى قبعتي السحرية أنا استطيع اخراج الأرنب لك ’ فيما الجمهور يضحك فرحا ’ متناسيا ان الأرانب حوله دائما ويتحدث عنهم كل يوم ويحاول اصطيادهم بطريقة لا تناسب الوقت ولا تناسب حتى المولوتوف.
 
سنجد اليوم البهلوان السياسي والجمباز السياسي لغة سائدة بين ظهرانينا ’ بل ونفرح لكل من يدغدغ مشاعرنا البائسة بمفردة الشهيد والبطل والتضحيات وكل زخم القصائد العربية المخفقة والمهزومة.
أسعدتم مساء سيقول لكم بها البهلوان كلما صعد مسرحا ’ لعله يقدم للعقول الكسلى معلومة لم يكلفوا أنفسهم السؤال عنها ’ وسينسون انهم يتحدثون أحاديث البهلوان في مجالسهم وبيوتهم ومواقعهم الالكترونية ’ حتى صارت حالة مملة ورتيبة لجمهور طيب ومحبط. هل نحن فعلا بحاجة الى غسيل دماغ من طراز جديد؟ هل نحن فعلا شعب ساذج تسعده الخطابات التحريضية التي لا تخرج مؤثراتها ابعد من سقف القاعة؟ هل نحن غاضبون دائما دون معنى مندفعون دون حدود ومستسلمون للمسلمات أيضا ابعد مما يجب وأكثر مما يحتمل؟ علينا أن نسأل أنفسنا.
 
 
الأيام 18 يوليو 2010