المنشور

تركيا بين المبادئ والمصالح (1-2)


تبدو التيارات الاجتماعية التركية متضادة بشكل عميق متقاطع وحاد، فهي لم تتكون بشكل متدرج ديمقراطي طويل، بل تشكلتْ في حُمى قرنٍ واحد، انتقلتْ فيه تركيا من إمبراطوريةٍ إلى دولة، ومن كيانِ خلافةٍ يقودُ أغلبيةَ المسلمين المستقلة عالمياً إلى تابعٍ للغرب الرأسمالي المعادي وقتذاك للشرق الاشتراكي وللعالم الثالث التحرري الوطني.

وفي سعيرِ هذا الانتقال اطاحَ حزبُ الاتحاديين بالخلفاء الأتراك، وشكل نظاماً دموياً استبدادياً قفز حتى على عنف دولة الخلافة التقليدي. وكان مضمون وجود هذا الحزب وسياسته يعني قفزة عسكرية من جماعات محدودة الثقافة والجذور الحضارية، ففي كلِ انقلابٍ (شعبوي) يقومُ به عامةٌ متخلفون لا يجدون سوى وسيلة العنف الأهوج طريقاً لتكريس مصالحهم الغامضة التي عادةً تتشكلُ في شعاراتٍ دينية أو قومية أو طبقية صارخة.

قفز الاتحاديون (الطورانيون) على خميرةِ التشكلِ السياسي التي كانت تعتملُ في جوفِ الجسد التركي الوطني القائد للامبراطورية الإسلامية الكبرى، فلم يقدروا على صنعِ مذهبيةٍ إسلامية تجديدية كانت تحتاج إلى تراكمات ديمقراطية واسعة في صفوف الفئات الوسطى المدهوسة من قبل الخلافة المتخلفة التي دهسها كذلك قطارُ التاريخِ الغربي المسرعِ في كيانٍ غامض حتى ذلك الحين.

ووجدَ القوميون المتعصبون في هذه القفزة العنصرية المسماة (الطوارنية) حلاً ايديولوجياً لإمبراطوريةٍ جديدةٍ تستندُ إلى العِرق، وتجمعُ الشعوبَ التركية أو ذاتَ الأصلين التركي والمغولي في وحدةٍ تستندُ إلى الدم.

في هذا الخيال السياسي مواد ايديولوجية هي، ففي هذا الزمن كانت برجوازياتٌ غربيةٌ كبيرة مخنوقة من غيابِ المستعمراتِ الشهية التي تزودُها باللحم البشري وبالبضائع، مثلما أن البرجوازيةَ اليهوديةَ تحتاجُ إلى مسلخٍ خاصٍ لليهود، لا يشاركها فيه أحدٌ من العمالقةِ الغربيين، وهكذا تداخلتْ واصطدمتْ هذه القوى المأزومة، بسبب غياب المستعمرات أو بسبب انسلاخ هذه المستعمرات من سيطرتها كما هي الحالة التركية، فتشاركتْ في الهم الاستعماري المأزوم، إحداها وهي الطبقة الحاكمة التركية عبر الاتحاديين مضت في مشروع مذابح على خريطة الإمبراطورية الممزقة والمنفلتة إلى شظايا من دهس القطار الغربي، تقتل الآلاف من الأرمن وتعدم قادة العرب، وتقوم بالتتريك، بشكل يدل على أن صناعة الأفكار والمبادئ في فهمها لا يقوم إلا بالعنف.

ونلاحظ ان أقصى تجليات العسكرة الدموية تتجلى في هذه النزعات الأربع، وهي الطورانية والصهيونية والفاشية والهتلرية، وتحدثُ بينها تداخلاتٌ مباشرةٌ أو غير مباشرة أو جنينية أو مستقبلية، بسبب مقاربات زمن الولادة التي جمعتها في فترةِ انهيارِ المستعمرات أو في زمن الشهوة العارمة لها، وجعلتها متقاربة جغرافياً وتاريخياً.

لكن السيناريو الطوراني القومي الدموي لم ينجح، لأن العديد من الأوروبيين دخلوا في تقطيع لحم المستعمرات التركية أو الهجوم على دارِ الخلافةِ نفسِها، وهي الأمورُ التي شكلتْ صفحاتٍ سوداءَ فيما يُسمى بالحرب العالمية الأولى، لكن بالنسبة إلى الشعب التركي الذي خرجَ من مستنقعِ المستعمرات، ودافعَ عن استقلالهِ بتضحياتٍ جسام، فقدْ وُلد بشكلٍ جديدٍ عبر قيادة كمال أتاتورك، وهي القيادة الممكنة المعقولة في ذلك الزمن العسير.

هذه الولادة الجديدة تمت بنفس أدوات الايديولوجية السابقة القومية الحكومية، وقد طورها كمال نحو التغريب والعلمانية والحداثة، والانسلاخ عن العالم الإسلامي. وقد كانت فيها مميزاتٌ إيجابية وكانت فيها سلبياتٌ خطرة كذلك.

وكان هذا هو مستوى الطبقة الحاكمة القادمة من العسكريين والموظفين والأغنياء الكبار الذين توحدوا عبر وظائفهم ومصالحهم وثرائهم مع هذه العلمانية الغربية، ولم يعودوا قادرين على فتح باب المساءلة لهذه الفترة وامتيازاتها وسرقاتها وعنفها ودهسها تقاليد الناس وقيمهم الدينية.

وكانت الأوربة مفيدة في تغيير العديد من الجوانب المتكلسة من الإرث الديني المحافظ الذي عُمم بأنه(الإسلام)، وكأن تركيا الفتاة التي فقدتْ المستعمرات فقدتْ ذاكرتَها كذلك، وهربتْ إلى الغرب، ونسيتْ قرونَ الاستغلال لعامةِ المسلمين في المعمورة التي حولتها إلى كياناتٍ متخلفةٍ مهترئةٍ قابلة للبلع من شتى الحيتان الغربية.

هذه الفئاتُ العسكرية والسياسية والاقتصادية لزمنيةِ العلمانية المتغربة، وجدت نفسها قوية في زمن الصراع العالمي بين الشرق والغرب، فعاشتْ على مساعداتٍ مُميزةٍ من الغرب، فهي تسرحُ عمالَها الفقراء في دولِ الغنى الرأسمالي في مهنِ البؤس، الذين يجلبون لها العملات الصعبة، كما تحصل على إعانات ومساعدات باعتبارها حليفاً وصديقاً لدوداً قد ينقلب في أي لحظة للدخول مع دول المحور، أو للانتماء للاشتراكية أو للمسلمين المتنامي دورهم في العالم.

هذا الموقفُ الرجراجُ الجغرافي السياسي كان له أن يسقطَ بفعلِ عوامل النمو الداخلي التي تصاعدتْ عبر السنين وهي تأكلُ العلمانيةَ المتغربة، وتأكلُ سيطرةَ الطبقةِ الفاسدة التي استولتْ على الحكم خلال هذه العقود ورفضتْ الديمقراطية الحقيقية.
 
أخبار الخليج 16 يوليو 2010