المنشور

طموحات فرديـة


يطرح العديد من المثقفين والكتاب الكثير من الكلمات العامة التي ربما كانت تنويرية نقدية، وهذه مفيدة لنشر شعارات فكرية مجردة، لكن المسألة لا تتوقف عند هذا.
 
إن بعض الفئات الوسطى المثقفة المنتجة للكلام لا تشتغل على مشروع حداثي حقيقي وإن بدا ذلك، فالعملُ من أجلِ المصالح الخاصة غيرِ المتضافرةِ بالتغييرِ العام الموضوعي لا ينتج تحديثاً.
 
وهي فئات مرتبطة بقوى اجتماعية أغنى وأقوى وأكثر قدرة على النقد وهي الفئات التجارية والاقتصادية الخاصة عموماً التي تعمل الانتشار في الأسواق، وكذلك المصالح الحكومية التي هي الأكثر تأثيراً وديمومة في الأبنية الاجتماعية.
 
نجد العديد من الناشرين العرب الذي اشتغل في نشر كتب تنوير ونقد، يركز الآن على التسويق مهما كانت الكتب التي يصدرها، سابقاً كان الاهتمام بكتبِ الضجةِ الفكرية والأعمال الأدبية المثيرة لكن الآن يُروجُ لأي كتبٍ ورواياتٍ ذاتِ شهية جنسية لشعوب مأزومة جنسياً، ويمكنها أن تحقق تسويقاً واسعاً.
 
بعض هذه الجماعات تركز على نطاق المصلحة المحصورة فيها، والمهم أن تكسب ولا تتعرض مصالحها للخطر، وفي الحقيقة ليس هناك أخطارٌ جسيمةٌ لكن هذه الفئات تتخيل وجود أخطار جسيمة، كما أنها تفتقد بُعد النظر لأن تطوير النقد والتحليلات للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية هو لمصلحتِها، مثل الناشر الذي يوسعُ دائرةَ التنوير والتحليل النقدي فتتنامى المجموعات التي تشتري كتبه، ومع انهيارِ هذه السمعة فإن المجموعات الجديدة من القراء الغرائزيين يمكن أن تزول، لأن الإثارة الغرائزية موقوتة.
 
وفي حين أن فرصاً كبيرة نشأت لكي تتلاحم هذه الفئات الوسطى وتوسع دوائر النقد والتحليل في مجالات معرفية وسياسية واجتماعية واسعة، فإنها تُصاب بقصر النظر والكسل العقلي والجري وراء الربح السريع.
 
فتصادف ان الناشر المهتم بمثل هذه الأهداف يواجه نقداً واسعاً حتى من القراء العاديين كما ينتشر ذلك باتساع في المواقع الخاصة الحرة، وهم الذين اشتروا بعض هذه الكتب وصُدِموا من مستوياتها الغرائزية وغياب العمق والأصالة فيها وعدم وجود قضايا عميقة فيها. وسوف تجد هذه الملاحظات في التعليقات على هذه الكتب في المواقع المختلفة بأقلام هؤلاء القراء البسطاء الأحرار، فيما ستجد الانتقادات من بعض الكتاب مختلفة مؤيدة لمثل هذه الكتب أو على الأقل تشجع على اقتنائها.
 
هذا نموذج يعبر كيف أن العديد من الفئات الوسطى العربية الثقافية والتجارية تتابع ما يُشاع من كلام عن تدهور الذائقة العربية وعن عدم قدرة العرب على التطور وهيمنة الظلامية عليهم كلياً وما إلى ذلك من إنشاءات تفتقر إلى التحليلات الموثقة، وتسهم في تعميقها عبر الكلمات والنتاجات الشعبوية المهتمة زعماً بالشارع، فلو كانت ثمة دراسات سبرت أغوار المجتمعات وحللت شتى الفئات لقلنا إن ذلك مقارب للحقيقة، ولكن مثل هذه الدراسات غير موجودة، كما أن ما يناقضها موجود وبشكل واسع.
 
إن فئة الناشرين على سبيل المثال وهي تتداخل فيها مستويات الاقتصاد والمعرفة والثقافة والمصالح الخاصة والعامة، لا تنشئ حتى علاقات وثيقة مع الكتابة العربية النقدية والتحويلية للواقع، ولا تقوم بالترويج لها، وهي معها في القارب المعرفي نفسه.
 
وثمة فئاتٌ تحديثيةٌ مرتبطةٌ بدولٍ وبمكائن الدعايةِ فيها، أو ثمة فئات دينية كذلك مرتبطة بجهاتٍ أخرى في هذه الدول أو خارجها، فيغدو المستوى المعرفي المعروض في الكتابات والعروض والبرامج الإذاعية والتلفزيونية محدوداً بينما يتضخم الجانبُ الايديولوجي، فلا تحدث مقاربات لجوانب نقدية موضوعية ولمقاربة قضايا الجمهور من بطالة وفقر وفساد مهيمن، أو لكشفِ جوانب إيجابية مُغيبةٍ في المعارضة مثلاً، أو محاولات إيجاد تعاون أو تحليلات متقاربة لظاهرات سلبية.
 
إن أغلبَ الفئات الوسطى العربية والعاملة ذات مصالح مشتركة أو متقاربة، لكن الأقنعة الايديولوجية ومستويات هذه الخطابات الجامدة تعرقل التعرف على بعضها بعضا، لتوسيع ظاهرات العقلانية النقدية للواقع والمشاركة في التغيير.
 
على المستوى الأعمق لا تدرك الفئاتُ الوسطى الحراكَ التاريخي الراهن، وأين تتوجه الفوائض النقدية المالية لتغيير الواقع الاقتصادي في كل بلد، أي أن تقوم هذه الفئات بالترابط الاجتماعي السياسي لتغيير تكلس الدول، وكيف أن هذه الفئات لا تكتشف كونها فئات مشتتة من طبقةٍ وسطى مُفترضة ينبغي أن تقومَ بعمليات تغيير واسعة للامام مثل بقية الشعوب، وأن النص الفارغ من الدلالة والكتاب العابر والجريدة الزقاقية، والناشر التجاري المحض والحزب النخبوي الانتهازي، كلها توجد أرضاً محروقة تعود عليها بالكساد المتعدد الألوان.
 
إن مواقع القوى الليبرالية والتقدمية والكراسات المحدودة والجرائد التي لا تُقرأ إلا في شوارع من بلدٍ واحد والكتب الجيدة المهملة والسياسي الذي لا يقرأ الأدب والأديب الذي لا يقرأ في السياسة والعلوم الاجتماعية، مثل هذه التقاطعات وغيرها تبين الانعزالات الداخلية والخارجية لتكويناتٍ متقاربة، وإن كلاً يعملُ في قوقعته لإزالة نفسه، والمفكرون العرب الشاملون الذين يلعبون أدوار المايسترو لموسيقى التحول النهضوي العربي الواسع، نادرون.
 
بطبيعة الحال كل يقول ما دخلي بالآخرين، وإنني بالكاد أحصلُ على معاشي، ومدهوس في تفاصيل الحياة ومشاغبات الظروف، ولن أشترك مع غيري في الإسهام بالتنوير والنقد. لكن كل الضيق في المعاش والفرص ناتج من هذه الأبنية الاجتماعية المتكلسة، ومن محدودية الوعي فيها.
 
 
 أخبار الخليج  13 يوليو 2010