المنشور

ريح الجنة والليبرالية الحكومية

لا يمكن أن تتمازجَ وتتعاضدَ الليبراليةُ مع حكوماتِ رأسماليةِ الدولة، فثمة تناقضاتٌ جوهريةٌ بين الجانبين. لأن الليبرالية تدعو لتحريرِ السوق فيما رأسمالية الدولة تقومُ بالهيمنة على السوق، وبالتالي تختلف الظاهرات المُنتجة من قبل الطرفين خاصةً في مسائل الحرياتِ، والعقلانية، والعلمانية، بين التكوينين السياسيين الاجتماعيين المتضادين.
ومؤلف رواية(ريح الجنة) الأستاذ الباحث تركي الحمد يشتغلُ في تأسيس مثل هذه الليبرالية، وحين نأخذ روايتَهُ تلك كنموذجٍ لهذا الاشتغال فإننا فقط نقرأ شكل القالب الفني الذي يستخدمه لإنتاج تلك الرؤية.
فهي روايةٌ تحاول أن تجسد حدث 11 سبتمبر والهجوم على مواقع التجارة والنفوذ الكبرى في الولايات المتحدة، عبر مقاربة نماذج المهاجمين لتلك المواقع الأمريكية، وتصوير لحظات الهجوم والعودة إلى تواريخ سابقة لهذه الشخصيات.
يقوم الكاتب بقطع لحظات الاستعداد والتنفيذ للحدث عن جذور هؤلاء الشباب الذين قتلوا أنفسَهم وقتلوا آخرين كثيرين بشكلٍ فاجعٍ ومدمر، فكأنهم نبت صحراوي لا يمت لتاريخ اجتماعي سابق، ويتم التركيز في الخطاباتِ الفكريةِ السياسية المتماثلة تماماً طوال العمل، فهم يكررون العبارات المطولة نفسها على اعتبار أنفسهم ممثلين للإسلام الأول، النقي، الكامل، ويرددون عبارات يقطعونها من سياقِها التاريخي، ويعلقونها في الهواء، رغبةً في ادعاءِ التماثل مع النبوةِ والصحابة، من خلالِ استغلالِ الأشكال الخارجية الديكورية والعبارات المحفوظة المقطوعة من سياقاتِها القرآنية والتاريخية.
إن موقفَ المؤلف وموقف هذه الجماعات متماثل منهجياً، في قطعِ اللحظة المؤدلجة من سياق التاريخ.
المؤلف يقوم بجعلِ هؤلاء الشباب نباتاً عشوائياً ظهر مصادفة، وليس إنه جزءٌ من تاريخ اجتماعي صراعي طويل بدأ منذ مشاركة الاخوان في تكوينِ الدولة السعودية، وتمازج مع مؤسساتها وطرق أعمالها السياسية والاقتصادية والايديولوجية، ويتضح هذا في مشاركة الجانبين في النظر للوثائق الأساسية للمجتمع خاصة دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، بشكلٍ موحد لعقود عديدة، فهذا الشباب الإرهابي نتاجٌ طويلٌ لعملياتِ غسلِ دماغ، وقُطعوا منذ البدء عن الليبرالية والديمقراطية والتفتح عموماً، وكانت الدعوةُ السعودية في جوهرِها الأول هي من أجل حصول الجزيرة العربية على استقلالها عن السيطرة الغربية، وقد حققتها، لكن الاخوان ثم النسخ المتتالية منهم اعتبرت التحرر تحرراً عن البشرية ككل، فواصلت علاقة القطع مع العالم، غير قابلةٍ للدخول في عالم الحداثة والنضال مع الناس من خلالها للمزيد من التحرر والتقدم، وكانت حداثة النظام نفسه حداثة محدودة كذلك.
وهؤلاء الشباب المعروضون في السياق السردي يقومون بتكرار نصوص دينية مقدسة بشكل مستمر منذ بداية (الرواية) حتى نهايتها، ولو قطعنا هذه النصوص المنقولة من الكتب، لصارت الرواية قصة قصيرة مطولة.
لكن هؤلاء الشباب الذين اتخِذوا كأدواتٍ في مشروعٍ معارض عدمي، قُدموا عبر العمل كأبواق لأفكار، فالكاتب لا يجعلهم ينساقون مع تداعيات حرة، وعلاقات حرة بالواقع.
وهنا لا قيمة للشخوص، فهم أنفسهم يتكررون مع تفاصيل مقطوعة من ظروفٍ وأمكنةٍ ومجتمعات مثل مصر والسعودية وأفغانستان، ومن روايات الصحافة عن الحدث.
إن النقلَ شبه الحرفي، وسلقَ الشخوصِ والأحداث، والتقريرية في عرض النصوص الدينية والمواقف، تجعلُ الكاتبَ يطفحُ على سطحِ الواقعِ وجزئياتهِ المحدودة التي لا تتغلغلُ فيما هو جوهري وعميق، فرغم عنفية هؤلاء وانتحاريتهم السياسية، فهم انعكاساتٌ لمعاناةٍ شعبية وظروف قهر وفقر وسطحية دينية شعارية. لكن اللغة الليبرالية الدائرة في المناخ الحكومي لا تستطيع أن تتغلغل في كلية الواقع وتكشف صراعاته، فهي تستلُ خيطَ الشباب من تلٍ كبير، وتعرضهُ وحيداً كأنهُ كل الواقع.
فتدخلُ عبرَ هذا في الأدلجةِ السطحية والدعاية، التي تبدو متناقضة، فهي تعرضُ إرهابيةَ وجنونَ هؤلاء الشباب، ولكنها تقدمهم عبر طريقتها السطحية كأبطالٍ يجعلون القارئَ يُعجب بهم، على خلاف قصد الكاتب!
إن عدم موضوعية العرض وتقديم مادة خبرية تجعل المادة السردية مغايرة لمبنى الرواية، لما تتطلبه من تلك الموضوعية ومن تعدد وجهات النظر ومن العرض المتعدد الأصوات، والتغلغل في السياق التاريخي، فهي تغدو قصة بوليسية مع خطاباتٍ دينيةٍ مُلصقة ومقحمة بالقصة.
إن تسطيحَ الصور الأخروية كنموذج واحد لدى هؤلاء مثل ترديدهم المتكرر (حور العين) يتبدى في عدم فهم هذه المفردات المُكررة بشكل رهيب وعدم درسها وهي التي ظهرت في التاريخ لغرضٍ نضالي في بدء الدعوة، فالمحافظون والليبراليون الحكوميون يغيبون تاريخيةَ هذه الصورة ككل وأهميتها الثورية التأسيسية في عالم هائل من الشظفِ والفقر والحرمان، وهذا يشير إلى عدمِ درسِ وفهم المصطلحات النضالية لزمنيةٍ ما، فالمحافظون وقد شبعوا من نِعمِ الدنيا لا يأبهون لذلك، والليبراليون الحكوميون وقد أخذوا بعض هذه النعم لا يتجذرون عبر التاريخ العربي الإسلامي في فهم ذلك ومعرفة أسباب طيران هؤلاء الشباب نحو المصابيح كالفراشات المنتحرة.
إن العجز عن فهم التاريخ يتبدى كذلك عبر العجز عن فهم تاريخ الرواية أيضاً، والجانبان متداخلان، فالرواية تغتني بفهم التاريخ، وتغدو أكثر فنية، لكن اللغة الشعارية تسطح كل شيء.

صحيفة اخبار الخليج
8 يوليو 2010