المنشور

رحيل محمد حسين فضل الله

سيمرّ وقت طويل قبل أن تهبنا الحياة رجلاً في وزن محمد حسين فضل الله الديني والمعرفي، وفي حصافته الفكرية ورصانته المعرفية، وفي شجاعته باجتراح الجديد المستقيم مع روح الإسلام والمتسق مع تعاليمه، وفي تأكيده على ضرورة وحدة صفوف المسلمين في وجه مساعي تفتيتهم إلى ملل وطوائف متضادة، متنازعة ومتحاربة.
ولا جدال في أن رجل الدين والدنيا محمد حسين فضل الله الذي رحل عنا، هو من أكثر وجوه لبنان والعالمين العربي والإسلامي إشراقاً وتفتحاً وعمقاً ورهافة إنسانية، هو الذي ترفع بنضج نادر عن الانتماء الطائفي الضيّق، وأصبح رجلاً للأمة كلها بمذاهبها كافة، بل إنه بتكوينه المعرفي الواسع، تحوّل إلى قيمة إنسانية مطلقة، حين أفلح، في ما أخفق الكثيرون في تحقيقه، في أن يصالح بين الدين والعصر، وأن يؤكد ما في روح الإسلام من قيم التسامح كونه دين يسر لا دين عسر.
أخذ من لبنان، وهو اللبناني الذي ولد وتعلم وعاش ردحاً من حياته في النجف، روح التفتح والتعايش المشترك، والانفتاح على المكونات الفكرية والفلسفية كافة، ناهيك عن الدينية بطبيعة الحال، كونه مرجعاً دينياً رفيع المقام، وصاحب الكلمة المسموعة لدى الملايين من مريديه ومقلديه.
كان رجل دين مقاوماً، وكان أيضاً رجل دين متسامحاً، وطنياً لبنانياً، بعيد الأفق، يدرك أن قوة لبنان في وحدة أبنائه من شتى الطوائف، ووسط الغلواء الطائفية التي تجتاح المنطقة، كان أوعى وأبعد نظراً من كل أولئك الذين غرقوا في وحل الطائفية والمذهبية الضيّقة، بوعي منهم أو من دون وعي.
ما أن انزاح الاحتلال الصهيوني عن ضيعته عيناتا ليس بعيداً عن بنت جبيل عام 2000 مجبراً أمام صمود المقاومة اللبنانية، حتى ذهب اليها، ومن هناك، قال: ليس للمسلمين في لبنان إلا المسيحيون، وليس للمسيحيين في لبنان إلا المسلمون، لقد تحرّرت الأرض وعلينا أن ندخل في معركة تحرير الإنسان من الحقد، لقد بقيت المعركة ضد الطائفية.. إنّ الدين قيمة والطائفية هي عشائرية متخلّفة.
لم تخدعه المظاهر والقشور، كان مفكراً عميق التحليل، ويرى ما خلف الظاهر من الشعارات البراقة التي تطلق للاستهلاك، وهو يلاحظ أن هناك مسحة حضارية تخدعنا، ولكن هناك عمقاً متخلّفاً يعيش في أعماقنا: «تعالوا عقلاً بعقل وقلباً بقلب، (والقول له)، تعالوا البلد الجميل لنغرسه بالمحبة، وأن تكون حركتنا في خطّ الجمال وصنع الجمال في الإنسان، فلبنان دُمّر جسدياً وأخشى أن يُدمّر إنسانياً».
مازلت أذكر دراسة قيمة كتبها فضل الله عن الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، جدير بالكثيرين من رجال الدين أن يتعلموا منه ومنها. يقول فيها لقد عاش شاعر فلسطين معنى إنسانيته، ومعنى شعبه، وانطلاقاً منه، فإنّ الذين يعيشون معاني إنسانيتهم وإنسانية وقضايا شعوبهم لا يمكن أن يبتعدوا عن نوافذ الانفتاح على الله تعالى… وعن الإيمان الذي هو حركةٌ في العقل ونبضةٌ في القلب وحركةٌ فيه وفي التجربة والحياة، ولهذا حين تسمع محمود درويش لا تشعر بابتعاده من الإيمان في تجربته الإنسانية… علماً أننا لا نفصل بين الإنسان وفنّه الذي ينطلق من داخله، فالخارج هو صورة الداخل، والفنّ ليس شيئاً معلقاً في الهواء، بل هو انطلاقة العقل ونبضُ القلب وحركة الواقع.
 
صحيفة الايام
6 يوليو 2010