المنشور

في الحالة الشمولية

لم تستطع الدول الشرقية الكبيرة خاصةً في المرحلة الراهنة أن تشكل وضعاً ديمقراطياً، وبطبيعة كل العالم تسوده هيمنات القوى الرأسمالية الكبيرة، لكن بخلاف الغرب الذي جرى فيه حراك ديمقراطي واسع النطاق. ولهذا فإنه في الشرق لم تنقطع الشموليات فيه على الرغم من الأحاديث والمهرجانات الكثيرة عن الديمقراطية، فلا توجد عملية تبادل الكراسي، فالكرسي يظل مستمراً أبداً.
لكن علينا أن نقرأ الأسباب الاقتصادية لهذا الثبات الكبير. لا تنقطع سلسلة الدكتاتورية إلا بوضع ديمقراطي يصعب على عموم الشرق تكوينه حتى الآن إلا في دولٍ استثنائيةٍ ولها أسبابٌ استثنائية، لكن الآن تتكون في المرحلة الليبرالية الجديدة البازغة، التي يحدث فيها اندماج الرأسماليات الشرقية الشمولية بالرأسماليات الغربية الديمقراطية لتكوين سوق عالمية موحدة في هذه اللحظة من التاريخ البشري.
يحاول الشرق أن يحافظ على تكويناته الاجتماعية التقليدية وهو ينخرط في العملية الديمقراطية العالمية، مثلما أن الغرب يقوم بتوسيع أسواقه.
ولهذا فإن الديمقراطية الشرقية لم تصدر عن طبقة برجوازية متحدة قامت بالتصنيع، وقامت بتفكيكِ نسيجِ الشمولية في الدين والحكم وفي علاقاتِ الهيمنة الذكورية في الأسرة وفي الثقافة وغيرها.
وحتى الآن فإن الرأسمالَ الشرقي العام مقلقلٌ، فهو شركاتٌ حكومية ترفضُ أن تخضع للبرلمانات الهشة المهمشة، وهو موزعٌ بين عدةِ أنصبةٍ كبرى أ: نصيب الطبقة الحاكمة، ب: نصيب المؤسسات العسكرية، ج: نصيب الفئات البرجوازية المتداخلة مع (أ) و(ب) والمستقلة، د: نصيب الشعب.
لم تقمْ (الديمقراطيات) الشرقية بتغيير هذه القسمة، وهذا في حد ذاته يوقفُ التنميةَ الواسعة العميقة، ويجعل الصناعات مرتبطة بتدخلات تلك الأنصبة، ويجعل الفوائض مرتبطة بسياسات ذاتية، علينا أن نقرأ مثالاً ملموساً لذلك لمعرفة هذه السببيات التي لا تُعرض.
فروسيا توجهُ فوائضَها نحو بيع السلاح والمواد الخام، وهو أمرٌ يخدم الفئات البيروقراطية الحاكمة، رغم أن البنيةَ الاقتصادية تتطلب تحولاتٍ عملاقة في التقنية، وفي ديمقراطية المصانع، وفي ارتفاع مستوى العمال التقنيين، وفي تحولاتِ نوعية لعمل النساء، وفي اختصار المؤسسات الحكومية البيروقراطية التي تمسكُ الرأسمالَ القومي الروسي، أي يتطلب ذلك توجيه فوائض كثيرة نحو تطوير مستوى حياة العمال، وهذا الصرف يتوجه لمعيشتهم ولأجورهم ولتعليمهم ولكن ذلك يشفط كثيراً من أرباح الفئات البيروقراطية. ودون رفع مستوى تقنية العمال لا يمكن لقوى الإنتاج أن تزدهر خاصة بمقاسات الثورة العلمية الراهنة الهائلة. ولكن تظل روسيا متخلفة على المستويين: الصناعي المتطور والممارسات الديمقراطية.
يتم في (الديمقراطيات) الشرقية الحفاظ أساساً على البيروقراطيات الحكومية، وتغدو اسوأ مع تغلغلِها في الرأسمالِ العسكري، فشراء الأسلحة ينهك الاقتصادات، ويغدو أكثر خطورة مع توجههِ لبؤرِ التوتر وقيام قوى عسكرية حاكمة.
إن التقليصَ وإعادةَ هيكلةَ البنية الادارية – الاقتصادية – الاجتماعية مهمةٌ كبرى وشديدة الصعوبة، وكلما كانت بُنية الإدارةِ متضخمةً، متغلغلةً في شتى قوى الاقتصاد والسياسة، صعب القيام بتحولاتٍ ديمقراطية فيها، وتعذر متابعة الشعب الشرقي للحراك الاقتصادي العالمي الناجح.
فثمة فروقٌ كبيرةٌ بين روسيا والمجر، فروسيا عاجزةٌ ديمقراطياً، لأنها أسستْ بنيةً حكوميةً هائلة، متداخلة مع صناعات السلاح الكبرى، وشركات المواد الخام الوطنية العامة، ولهذا فإن الديمقراطيةَ فيها شبه مستحيلة حسب هذا البناء، فيظل حزب السلطة ورموزه هي المهيمنة وليس لأن الشعب الروسي متخلف أو لا يريد الديمقراطية.
في حين ان المجر تطورت بشكلٍ مختلف، تقول موسوعة ويكيبيديا:
(اتبعتْ المجر منذ التغيير السياسي في نهايةِ الثمانينيات، سياسةً اقتصاديةً حرة تشابه مثيلاتها في دولِ غرب أوروبا. تثبتُ المجرُ يوماً بعد يوم أنها ستكون إحدى الأسواق الواعدة ضمن الدول التي انضمت حديثاً في عام 2004 للاتحاد الأوروبي. تملك المجر، مع التشيك وسلوفينيا، أحد أعلى مستويات المعيشة في شرق أوروبا. يسهم القطاعُ الخاص بزهاء 80% من الناتج القومي العام للبلاد. يذهب زهاء ثلث الاستثمارات الأجنبية الاجمالية لمنطقة وسط أوروبا للمجر وحدها.).
إن المساهمةَ الكبيرةَ للقطاع الخاص هو جوهرُ العملية الديمقراطية الراهنة في الشرق، فقد أُزيحت المؤسسات الحكومية التي تهيمن على الاقتصاد، وخلال ذلك تبدلت الحياة الاقتصادية، عبر هذا التداخل والتعاون والصراع بين البرجوازية والعمال في نظامٍ ديمقراطي تعددي تداولي للسلطة، والتداول يغيرُ الصخورَ المعرقلة للتطور في أجهزة الدولة.
كانت روسيا مقر الاستبدادِ في الشرق في حين كان بعضُ دول أوروبا الشرقية واعدة بتطور ديمقراطي، ومن هنا انتفضتْ المجر في مراتٍ عديدة على الهيمنةِ الروسية، وكان فيها نخبٌ ثقافيةٌ ديمقراطية كبيرة، وظهرَ فيها أهم فيلسوف ماركسي في القرن العشرين وهو جورج لوكاش.
كان حراك المجر أسرع من روسيا في تفكيك الهيمنة الاستبدادية في الحكم وفي الأسرة وفي الثقافة ومن هنا تقدم الآن لشعبها مستوى حياة أفضل بكثير من روسيا.
ولا يعني ذلك أيضاً عدم طموح عمالها وشعبها لمساواةٍ أعمق وعدم الصراع مع الرأسمالية كذلك، أو أن الأخيرة حالة أبدية على مر القرون.

صحيفة اخبار الخليج
5 يوليو 2010