المنشور

حراكُ الأديان: خفوتُ الكونفوشيوسية (2)

 الأشكالَ العامةَ العبادية المظهريةَ للصين القديمة تزدادُ اهتراءً، الكلماتُ المثالية لكونفوشيوس لا تقدر أن تجمل النظام الإقطاعي البشع، وكان الكثيرُ من مشكلات النظام تقعُ فوق رؤوسِ أحد الشباب الثوري وهو ماوتسي تونغ الذي تقدمَ لتغييرِ كل تلك القرون!
تذكر سيرتهُ الحزبيةُ الرسميةُ ما يلي:
(وقد لجأ النظامُ الإقطاعي المتوحش السائد آنذاك إلى الايديولوجيا الأكثر تسلطاً المبنية على تعاليم كونفوشيوس لإيجادِ شرعيته. هذه الايديولوجيا التي تهدفُ قبل كل شيء إلى قمعِ ظهورِ أي فكرة جديدة ودفع الشعب إلى القبول بوضعه، إذ تعتبر أن العائلةَ وكل العلاقات الاجتماعية ينبغي أن تتلاءم مع تراتبٍ دقيق. لكن ماو تسي تونغ كان قد حسم مبكراً مع التقاليد وتمردَ عليها، وهكذا عارضَ الممارسة الكونفوشيوسية التي تتيحُ للآباءِ أن يختاروا الأزواجَ لبناتهم، ليتحولن مذ ذاك إلى إماءٍ لأزواجهن وآبائهم. ومنذ أن كان ماو لم يتجاوز بعد سن الثالثة عشرة، رتب له والدهُ زواجاً بفتاةٍ عمرها تسع عشرة سنة لتعملَ كخادمةٍ له، حتى يصبح هذا الزواج تاماً، لكن ماو رفض نهائياً قرارَ والده.).
هذا الرفض في الواقع لعلاقاتِ الزواج التقليدية كان يعبرُ عن اصطدامٍ عميق مع تلك الأفكار المحافظة التي تجمدت لكونفوشيوس وإيذاناً بدخولِ علاقاتٍ ديمقراطية في الخلية الأولى للمجتمع وهي الأسرة، ثم يجري توسيعها لترفض كل أشكال السلطة الفوقية ثم تتبنى الماركسية لكن من خلال آرائه الخاصة.
نستطيع أن نقولَ إن ثمةَ قشرةً ماركسيةً هنا وتحتها اللب وهو القومية الصينية العريقة، وراح ماو عبر العقود التاليةِ يكيفُ هذه الماركسية المستوردة مع الطموحات القومية للفلاحين الصينيين، وعلى ضوءِ قراراتهِ الحادةِ التسريعية كان يشكلُ التاريخَ المستقلَ الجديدَ للصين. كان هو مركز القرار والدكتاتور القادم، غير القابلِ بوجودِ سلطةٍ أخرى، وعبر القوة الفلاحية العسكرية التي حصلت على الأرض غير الخاصة كان يهدمُ القوى الأخرى بذكاءٍ عسكري كبير.
إن تشكيلَ دولةٍ قومية من دون طبقةٍ برجوازية أمرٌ عسير، وتشكيلها من خلال طبقة فلاحين متخلفة أمر أكثر عسراً، وعبر حرب عصابات ضارية تتويجٌ عنيفٌ لكلِ تلك المغامرات المركبة! لكنها كانت اختزالاً للتاريخ على طريقة روسيا ومن خلال خصوصية قومية.
خلافاً لكونفوشيوس الواسع الأفق المثالي الحالم المتسامح ظهرَ ثوري هائجٌ باسم الشعبِ وكرسَ نظاماً ذا ملكياتٍ عامةٍ وصناعاتٍ شعبيةٍ صغيرة واسعة ذات فقر تقني رهيب، وهو صاحبُ فقرٍ نظري كذلك لأن ما يعمله وفي تصوره هو إزالة للطبقةِ الغنية وإنه يهدمُ البرجوازيةَ(غيرَ الموجودة) بشكلٍ كامل، في حين كان هو المؤسسُ للبرجوازيةِ الحكوميةِ الشمولية القادمةِ بتوسعٍ هائل.
يقود النظامُ الجديدُ إلى تكوين أسرةٍ حديثةٍ بالقوة، وتُنشر ثقافة حديثة، ويتم إبعاد كلي لصيغة الدين الماضوية عبر صياغة دين جديد، معلب: المساواة بين الأجناس والقوميات، إلغاء الذكورة المستبدة، إلغاء هيمنة ملاك الأرض، إطلاق قوى الشعب العاملة الخ هذه كلها شكلت صين جديدة.
هنا نرى ان الهدمَ(الشيوعي) للدين، وهو إجراءاتٌ كاسحة بيروقراطية بمنعِ الدين، على غرارِ إجراءاتِ لينين وستالين، تزيلُ نفسَها بعد عقود، لأن البيروقراطية ليست عقلانية فكرية تحليلية تتغلغل شعبياً، كما أن الديانة الماضوية البعيدة كانت قد اختنقت اجتماعياً في الواقع، ومع تغيير العلاقات الاجتماعية الاستبدادية فإن تلك الصيغ المحافظة الدينية تتبدل.
إن الألحادَ الماوي مثل الإيمان التقليدي هما وجهان لعملةِ الاستبداد، فنظراً لنقصِ الثقافةِ العلمية الديمقراطية لدى الجانبين وعدم حصول تغيير ديمقراطي شعبي طويل تظهرُ نسخٌ عسكرية وطنية وعبر ماو يتم التعجيل الرهيب بمسيرةِ النهضة، وتُقدسُ الشخصيات: كونفوشيوس، بوذا، ماو، أعضاء المكتب السياسي، تاريخ الثورة، الحزب وأدبياته، تُحنطُ ولا تنقد بشكل علمي.
إنها توجد رأسماليةً ذاتَ مستويين: رأسمالية حكومية مسيطرة، ورأسمالية خاصة طالعة من أمها الفاسدة السابقة، لأن الاشتراكيةَ فوق بيئةٍ متخلفةٍ لا تُنتجُ سوى رأسمالية حكومية بيروقراطية متناقضة، ونظراً لضخامةِ السوق البشريةِ الصينية ونشر آليات تعاون دقيقة متطورة بين الرأسماليتين العامة والخاصة، فإن التجربةَ تحققُ تقدماً كبيراً وهي تتجاوزُ ماو وتبسيطاتهِ الاقتصادية والفكرية.
تستردُ الكونفوشيوسية بعضَ جذورِها المتيبسة القديمة، والقيادات الجديدة ما بعد ماو لا تطلقُ حريات الأديان، لكونها يمكن أن تقودَ إلى حراكٍ سياسي فوضوي في بلدٍ هائل ذي قوميات وأديانٍ متعددة، رغم حماية قومية الهان الكبرى للهيكلِ البشري الرهيب. كما أنها تجلبُ بعضَ العاداتِ الغربيةِ الحضارية رغبةً في التحديث، لكنها لا تقدرُ على الانتقالِ للديمقراطية الغربية، فيحدث حراكٌ ديني غامضٌ عبر استعادات النزعات الروحانية القديمة في أمةٍ لا تستطيع أن تنتقلَ للرأسماليةِ الغربيةِ الديمقراطية ببساطةٍ بسببِ أن الطبقتين البرجوازية والعمالية متداخلتين بشكلٍ مركبٍ صعب الانفكاك من دون كوارثٍ اجتماعية، ولهذا فإن ظهورَ الكونفوشيوسية ربما يخففُ من هذا الاحتدام الطبقي الصراعي الداخلي، ومن التفاوتِ الهائلِ والمتصاعدِ بين الأغنياء والفقراء، خاصةً انها تدعو للتضحيةِ والفضائل لكن الأساسَ الاجتماعي الذي ظهرتْ عليه مجدداً هو أساسٌ صراعي متضادٌ كذلك، وهو مفيدٌ بعض الشيء لعدمِ وصولِ الأطرافِ الاجتماعية إلى نزاعاتٍ دموية تسبب فوضى وطنية – عالمية، مع ضرورة رجوع الثقافة السياسية لأساسياتِ الحضارة المتقدمة الحديثة.

صحيفة اخبار الخليج
25 يونيو 2010