المنشور

حتى لا تكون الصرخة الأخيرة!


ليست هي الصرخة الأولى التي يطلقها ممثلو جمعية ونقابة الصيادين المحترفين، فقد سبقتها صرخات لا زالت تتكرر كل يوم وكل حين، خاصة بعد أن أصبحت قضية الصيد والصيادين هي القضية الأبرز على الساحة البحرينية ومنذ قرابة الشهر حتى الآن، وبعد أن تم احتجاز مجموعة من الصيادين والهواة البحرينيين ومحبي البحر في المياه الإقليمية في قطر، وهي القضية التي من وجهة نظري هزت أي معنى للتعاون فيما بين دولنا التي ترتبط بمجلس للتعاون، يتعشم فيه أهالي المنطقة ولو الحد الأدنى من التعاون فيما بينهم، خاصة وان مجالات التعاون الاقتصادي هي مجالات مؤثرة بقوة في تعزيز روابط الإخاء والتعاون فيما بين دول المجلس لو تم التركيزعليها بشكل أكثر جدية، كما يتم التركيز مثلا على القضايا الأمنية!

في مثل هذه الأجواء الملآى بالحيرة والإحساس بضياع أي أمل للتعاون فيما بيننا، ووسط حيرة أهل البحر من بحارة وصيادين وأسر لا يوجد لها غير البحر مصدرا للرزق، وبعد أن تقطعت السبل ببحارتنا وهم يطرقون كل الأبواب عاما بعد آخر باحثين لهم عن حلول وإجابات تعذر وصولها وسط حالة الجشع التي أضحت تنتاب بعض المستثمرين الجدد ممن أعيتهم الحيلة للاستثمارعلى اليابسة، جاء اللقاء التشاوري الذي أقامه الصيادون في مقر جمعيتهم بالمحرق الأسبوع المنصرم وبحضور نخبوي غابت عنه الكتل باستثناء نائب واحد، وكأن موضوع البحر والثروة البحرية لا يستحق حتى مجرد المساهمة من قبل كتلنا البرلمانية، حتى ولو من باب التضامن المعنوي، الذي ربما لن يكلف كبير عناء، فقد حضر الصيادون وممتهنو الصيد وتجاوب معهم عدد مهم من ممثلي الجمعيات السياسية ووسائل الإعلام في تظاهرة أعتقد أنها أدت الغرض المأمول منها وهو إيصال رسالة واضحة تم بلورتها على شكل خطاب موجه هذه المرة إلى جلالة الملك حفظه الله، وموقع من قبل الحضور ويحمل توصيات محددة حول تقنين مهنة الصيد وتحديد مواقع الدفان  وغيرها.

أكدت من خلال مداخلتي على ضرورة التقاط الدعوة المطروحة لقيام إطار وطني واسع يشمل المعنيين من أهل البحر ودعاة حماة البيئة والمثقفين والشخصيات الوطنية والسياسية لحمل مهمة الدفاع عن ما تبقى لنا من مياه وبيئة بحرية لا زلنا مأخوذين بزرقتها وما تمثله لنا من ذاكرة وثروة هامة جدا، ففي الوقت الذي تقوم فيه الدنيا ولا تقعد عند بعض نوابنا الأفاضل وهم يستميتون في الدفاع عن استمرارعلاوة الغلاء التي لا تتجاوز 50 دينارا لكل رب عائلة ، كان أجدى بهم لو أكملوا معروفهم بالدفاع والوقوف بصلابة عن المصدر الرئيس لمائدة المواطن البحريني الذي تمثل الأسماك محورا أساسيا فيها. أما وقد أصبح الصيد البحري شحيحا بل ومعدوما في الكثير من مناطق الصيد وهيرات الصيادين التي تناقصت إلى حد مخيف، فانه يجدر بنا جميعا أن نتعامل مع ذلك باعتباره تهديدا رئيسا وليس ترفا يزاوله البحارة ومعهم بعض المهتمين بحماية البيئة البحرية.

الحقائق التي ذكرها البحارة في ورشة المنبر التقدمي ولاحقا في حلقة الصيادين الحوارية لا تحتمل التأخير والتسويف وهناك حاجة ماسة لقرار سياسي يستطيع أن يضع النقاط على الحروف وتقوم على تطبيقه جهات ذات مصداقية غير ضالعة في ما يشوب هذا الملف الخطير والشائك والمتداخل من إهمال وتدمير وفساد أيضا، فبحرنا الذي أصبح وباعتراف البحارة خاليا من الحياة البحرية التي ميزتنا على الدوام لا يحتمل المزيد من الإهمال والتواكل، ومن المعلوم أن ترسيم الحدود مع الشقيقة قطر قد أثر سلبا على مصادر الأسماك لدينا، كما أن الفوضى العارمة التي تضرب مهنة الصيد ومجال الصيد البحري قد زادت الوضع سوءا، ويكفي أن نقول أن الوزير المعني بالبحر وتنظيم المهنة لا يملك من قراره إلا التصدي للمسائلة النيابية، وذلك ما استدعى، تعاطفا نيابيا وشعبيا مع الوزير لعلمهم أنه ربما يراد له أن يكون الحلقة الأضعف ضمن مراكز قوى أضحت تستبيح البحر ومن خارج القانون، دون أن تخاف أي نوع من المساءلة أو العقاب!

فهذه ليست المرة الأولى التي نكتب فيها عن البحر وعن بيئتنا التي كانت بكرا وأصبحت مستباحة لنوازع من الجشع والاستهتار من قبل من يمارسون هوايتهم بعناد وعدائية مع بحرنا الذي أصبحت تجوبه مكائن الدفان وسحب الرمال وآلاف القوارب المرخصة لمتنفذين أو نافذين يملأون البحر بالعمالة الأجنبية الرخيصة، ليذهب كل ذلك البحر وذلك التاريخ المسكون بأنات البحارة ونهمهم وفرحهم إلى دون رجعة وسط حالة من السخط والتذمر، ومصير مجهول ينتظر أهل البحر وأسرهم.. المسألة بالفعل تحتاج إلى وقفة شجاعة وعلى أعلى مستوى، لا تقبل المماطلة أو الدخول في حسابات من يزعل ومن يرضى، وإنما ضمن حدود مسؤوليتنا الأدبية والسياسية والأخلاقية، عن بحر لا يصح أبدا أن نقرر مصير نهايته، بل يجب أن يبقى ملكا مشاعا لكل الأجيال القادمة من بعدنا.