المنشور

رحــــل المقهــــــوي


كثيرون مَنْ أعرفهم مِنْ أبناء الماركسية الذين فارقوا الحياة وحزنت عليهم.. إلا أن حزني للفقيد عبدعلي المقهوي له مرارة حسرة استبدت بذاكرتي وأخذت أشرطتها تتسقط حميمية هذا الإنسان الذي يغط لقمة الفكر في لقمة العيش.. ولقمة العيش في لقمة الفكر.. فيستوي الوطن لديه فكراً ماركسياً ويستوي الفكر الماركسي وطناً.. وكان يماهي الوطن بالفكر ويماهي الفكر بالوطن.. ويصبح وطناً في الفكر.. وفكراً في الوطن!!

وكنا في الستينات نتماهى نقاشاً حميمياً… وكان أكثر إنصاتاً وتأملاً.. وكان يلزم الصمت في كثير من الأحيان.. إلا أنه يستبين رأياً مستبيناً بعد يوم أو يومين ويسرني برأيه مبتهجاً.. لقد حلّ عندي أكثر من شهور ثلاثة في دمشق.. وكنا نسكن تحت سقف واحد.. وكنا نقتسم رغيف العيش رغيف الفكر معاً.. وكان قارئاً نهماً وكأنه قدم تواً من مجاعة!!

إنه رفيق روح ماركسية يتألق تواضعاً ويتدفق طيبة وأرباً وعظمة إنسانية وبساطة.. عفيف النفس طيب المعشر.. له قامة طويلة وجسد ضخم وعيونه تتقلب في مآقيها مثقلة بأحزانها كأنها تضم فقراء الدنيا في نظراتها.. وله أنف ضخم يتكوّر بين وجنتين رجراجتين وشارب مبروم ينحني فوق شفتين مملوءتين.. يبسم فاحس في ابتسامته رضا مواصلة درب طويل!!

كثيرون من انكسروا على درب الماركسية، هو ما انكسر وراح يصارع الموت بفكر الحياة من أجل الحياة.. وكان يتماهى حباً لأحد قادة التحرير الوطني.. وعندما انكسر قلت خسرناه.. قال بل خسر نفسه نحن لا نخسر أحداً من المنكسرين.. وإنما هم الذين يخسرون أنفسهم.. وأشهد أن عبدعلي المقهوي مات وهو قابض على جمر حزبه ووطنه دون أن ينكسر!!

يومها في الستينات كان يمسك بيد محمد سليمان البسام الشخصية الوطنية اليسارية الفذة الذي انتقل إلى جوار ربه وهو قابض على جمر اليسار في صفوف الماركسيين السعوديين.. كان يمسك بيده ويذهبان إلى سوق الحميدية يتناولون شيئاً من (بوظة) بكداش.. وقد استهواهما اسم بكداش الشخصية السورية الشيوعية المرموقة فاستهوتهم نكهة وطعم البوظة وبعدها تأخذهم الأقدام إلى المكتبة الظاهرية محمد سليمان البسام شخصية مثيرة لجدل الفكر وكان مرتبطاً روحاً وفكراً بإمامة أبو العلاء المعري وكثيراً ما يتمثل بأشعاره لقد أصبح المقهوي والبسام صديقين حميمين يغطان في الصباح في المكتبات الدمشقية وفي الصباح على دكّة بكداش في الحميدية.. وعندما غادرنا (أبو سليمان) إلى الكويت.. كان المقهوي صباحاً ومساءً يتلفت من حوله كأنه فقد شيئاً عزيزاً عليه.. وقد حزن حزناً شديداً يوم أن أتاه نعي محمد سليمان البسام..
 
وفي التسعينات يوم أن امتدّ رهاب التطرف والتخريب يذرع البحرين.. كان عبدعلي المقهوي يناقض رأي غيره من اليساريين ويدين بشدة أعمال التخريب والإرهاب الطائفي وقد استبان فجر نضال الإنسانية التقدمية في مشروع الإصلاح الوطني وراح مع رفاقه يخط أول الحروف على طريق التجديد والتغيير في وضع اللبنات الأولى في تأسيس المنبر الديمقراطي التقدمي.

وفي مساء دفنه كانت الرجال والنساء تبكيه على حدٍ سواء.. وقد تجلى الاستاذ سلمان كمال الدين إشراقة عاطفة إنسانية لا تجارى وهو ينتحب رفيق زنزانته وعيونه لم تكف عن الدموع حتى صباح اليوم الثاني.. متبوئًا مكانه بين المعزيين.. وقد أدركتُ أن الإنسانية تتجاوز إشراقة على الأيدلوجيا فقد كانا مسار فكرين متناقضين!!

فإلى أهله ورفاق دربه وأصدقائه وإلى الإنسان الكبير سلمان كمال الدين الذي أصبح جُذاذة أحزان تسح دموعها سحاً أطيب وأحر العزاء.. وأن يُمن عليهم بالصبر والسلوان!!
 
 
الأيام  21 يونيو 2010