المنشور

عبدعلي محمد أحمـد.. وداعاً


رحيل المناضل عبدعلي محمد أحمد خسارة كبيرة للمنبر الديمقراطي التقدمي وللحركة الوطنية الديمقراطية البحرينية، كان مناضلاً صلباً عرف عنه منذ شبابه المبكر بحسه الوطني العميق وبانتمائه للماركسية وبمساهماته الفكرية والثقافية والسياسية التي تتدفق نشاطاً وحيوية.

حقيقة التقيت بهذا الإنسان الرائع فكراً وخلقاً وسلوكاً في دمشق عام 74 ولا أدري بالضبط في أي شهر كان هذا اللقاء ولكن كل ما أتذكره أنني رأيته هو والشاعر سعيد العويناتي في “قبو” المناضل عبدالله محمد الذي كان وقتذاك يعج بالنقاشات الفكرية والسياسية بين التقدميين وقوى التطرف من اليسار والقوميين.
في ذلك المناخ المحتدم بالجدل والحديث الطويل عن دور الطبقة العاملة والطبقات الاجتماعية والأممية والقضية الفلسطينية والنزعات القومية الشوفينية المسكونة بعقدة المؤامرة الخارجية كان “عبدعلي” الهادئ القليل الكلام يمتاز بقدرة فائقة على الإصغاء وبهذا النهج كان يرصد كل صغيرة وكبيرة في الحوار ولعل هذا ما يميزه عن بعض السياسيين الذين يستعرضون كل ما حفظوه من معلومات وشعارات ومقولات في حين ان الغالبية من هؤلاء في قطيعة او عزلة عما يجري في الواقع من تحولات والأكثر من ذلك أنهم نموذج للأستاذية والتعالي وهذا في حد ذاته أزمة من أزماتنا الذاتية إلا أن “عبدعلي” متى ما كان طرفاً في الحوار فهو حجة مقنعة في تحليلاته الفكرية والسياسية والتاريخية وعلى هذا الأساس كان يعزز رأيه وقناعته ليس بالمقولات فقط وإنماً أيضا بالأرقام والشواهد التاريخية والوقائع.
«عبدعلي” الذي كان يوصف بالصلابة والصدق والشجاعة والمرونة والواقعية في الرأي والتحليل كان من اشد المدافعين عن هموم الناس والفكر وقضايا الشعوب وكان أيضا لم ينحن ولم ينكسر أمام اغراءت الحياة المادية ولم يتنكر قط لفكره والتراث الماركسي والإنساني بل كان كما نسمع عنه صامداً لم يتراجع كما فعل البعض ولم يتردد في ممارسة النقد والنقد الذاتي.

بعد عقدين من الزمان شاءت الظروف أن أتعرف عليه عن قرب اذ توطدت علاقتي به عندما كان يعمل في مصنع للثلج بوظيفة “أمين صندوق” في تلك الفترة الشاقة التي ودع فيها من ودع وتوارى عن الأنظار من توارى وركب الموجة الدينية والفكر السياسي المغامر الطارئ من ركب كان بالفعل حضناً دافئاً لنا كانت خبرته وخبرة المناضل “محمد نصرالله” الغنية في الحياة الحزبية السرية زاداً يغذينا ويمدنا بالصبر والاستمرارية والحفاظ على الذات والتواصل مع الناس ومع “الربع” اي كانت كل هذه الخبرات التي تعد من التراث الكفاحي للجبهة يوصله لنا في زمن غلب عليه التأزم والانكسار والتصفيق الحار للقوى الدينية المتطرفة كان مثقفاً ثورياً متميزاً والمثقف الثوري الأصيل كما يقول “محمود امين العالم” هو الذي لا يفصل بين فكره وحياته، بين آرائه ومواقفه بل يجعل من رأيه معركة حية ومن حياته تعبيراً صادقاً عن الرأي الذي يراه لا ينعزل بثقافته عن الشعب بل يجعلها وقوداً له في معركة التحرر والتقدم. هكذا كان “أبو أنس” وهكذا كانت حياته دائماً دفاعاً عن الحريات والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.

والشيء الذي ما أزال أتذكره هو ان هذا الإنسان البسيط المتواضع المثقف الذي لم يصب بلوثة الغرور والازدواجية وتضخم الذات كان قارئاً جيداً متابعاً للحياة الثقافية كان كل مرة ألتقي به يسألني قبل كل شيء عن القراءة، كان يخبرني عن أسماء الكتب والإصدارات الجديدة خاصة الفكرية منها، ويسألني أيضا عن أخبار “الربع” وعندما ننخرط في حديث الشأن العام تتشعب الأفكار والرؤى ولكن ما يلفت الانتباه في حديثه تلك الإمكانية الفكرية التي تتجلى في ربط النظرية بالتطبيق اي انه كان يربط جدلياً بين العام والخاص في إطار الواقع لا في إطار المعرفة النظرية فحسب والشيء الآخر الذي يثير الارتياح في حديثه هو التفاؤل والثقة عندما كان يردد “الدنيا بخير” في تقديري ان هذه “الإشارة” تكشف “حقيقة” تفكيره المتزن الواعي لكل التناقضات والطموحات الديمقراطية التي كان أكثر انشغالاً بها.
بوفاة المناضل عبدعلي محمد احمد الرمز الوطني الذي غيبه الموت بعد صراع مع المرض رحل كما يقول الأخ حسن مدن الأمين العام للمنبر التقدمي في عموده في جريدة “الأيام” فارس آخر من فرسان جبهة التحرير الوطني وقادتها.. فارس من فرسان الحركة الوطنية البحرينية التي ناضلت من اجل استقلال البحرين من الاستعمار وأعوانه وفي سبيل الديمقراطية والتقدم.
 
الأيام 19 يونيو 2010