المنشور

صبية الحي تطل من شرفة الذاكرة

كثيرة هي الاشياء التي يصعب تفسيرها في الحال ، خاصة عندما يتعلق الموضوع بقدرة الذاكرة على الاسترجاع والتخزين والاستحضار الغريب للتفاصيل، واعادة طي تلك الصور والقصص مرة اخرى في ارشيف الذاكرة، لكي يتم استدعاؤها وقت حاجاتنا الروحية والانسانية.
من تلك الصور الجميلة من ذاكرة الايام ورائحة الزمن العتيق تأتيك القصص والحكايات الصغيرة، التي في سردها ونثرها وشعريتها الحكائية ما يجعلنا ندخل في لحظات ان لم نقل في «برهة» الدهشة والانبهار في فرح غامر عميق وبهيج.
ما يبعث على الراحة النفسية هو تلك الصور العتيقة لصبايا الحي اللاتي اصبحن امهات وجدات وهن في وقت مبكر!!، ففي الوقت الذي ذهبن زميلاتهن في المدرسة للجامعة وجدن انفسهن ينشغلن بزواج مبكر فرضته الظروف والذهنية الاجتماعية والتقاليد وصعوبة الحياة ولقمة العيش ، فماتت الاحلام عند عتبات المرحلة الاعدادية او الثانوية، فيما غردن الاخريات نحو فضاء الله الواسع وجامعات الدنيا، يفتشن عن الشهادة والمهنة والتخصص ، بينما جلسن صبايا الحي مشغولات بغزل نسيج الحكايات عن من هو تزوج وطلق وخان ورحل ومات دون أسف عليه غير كلمة «رحمه الله» بتلك المفردات الشعبية والدينية تحدثن صبايا الحي العتيق في الحورة عن ذاكرتهن الطيبة والاليمة الا من فرح الحياة وبساطتها ، فمن منا يستطيع مصادرة الضحكة في بيت الفقراء، وهو الامتياز الوحيد بين بيوت الناس وخلقها على هذه البسيطة، وان لم تكن النكتة والابتسامة حاضرة فان بيوت الامس في الحي العتيق قادرة على صنعها لكي يوزعوا البسطاء فيما بينهم خبز الهم اليومي بينهم بعدالة، تتساوي وحجم تلك الافنية والحجر والحاجات اليتيمة من بؤس المعيشة الا ثراء الروح والكرامة.
للفقراء محبتهم وللبسطاء طيبتهم في ذاك الزمن، فهم اكثر حنانا ومحبة ببيوت الجيران وهمسها، وهم من يبعث لكل بيت بصحن من طبق المحبة ، هذا الحنين المختزن بقوة في عمق الذاكرة ايقظته منذ ايام قليلة ابنة حينا وهي تتابع خطوك في المنفى والحضور والغياب، تتابع كلماتك المنهكة بالزمن والحياة فتعيش هي ماضيها في حاضر أمومة مبكرة، لولا تلك الضحكة الذهبية التي جاءت بصوت طفولي كالامس عبر هاتف عمره يقترب من النصف قرن ، يا لله كم تهز مشاعرك لحظة جميلة وتنسف لديك قناعات عدة بغموض الحياة وسرها.
لم اكن اتصور ان ابنة الجيران في حينا الشعبي محاط بحكايات وذكريات سقطت من ذاكرتي ولكنها ظلت في ذاكرتها نحتا جلموديا كالزمن الطيب والطفولي . لم اكن اتخيل انها – تلك الصبية – التي بكت على سقوط نعلها في ماء البحر خوفا من عقاب والدتها ، ستظل تحتفظ بحكاية ذلك الصبي الذي غطس تحت الماء واحضر نعالها وهدأ من روعها وخوفها، فذهبت مطمئنة البال، سعيدة بفردة النعال، التي تآكلت مع الزمن، فيما ظلت الحكاية تتحرك عند ذاكرة ذلك البحر وشاطئه، بقت هناك كموج يتمدد ويعود كل مساء او فجر نائم برطوبة الليل.
للنساء في الحي حكايات ولكن لم اكن اعرف ان صبية الحي ستطل من شرفة الذكرة بهذه الروح الجميلة والنبيلة والمشاعر الانسانية الرهيفة، لعلاقات انسانية تبخرت من فضاء الحي وجدرانه ولكن الذاكرة تحمله وحملته معها اينما تمضي، فتتناقله الايام بمودة لا يمكننا تخيلها ابدا الا في تلك المفاجأة الغريبة والعجيبة ـ صوت يأتيك بعد نصف قرن ـ . كنت اتصور ان اتحدث مع كثير من الناس افتقدتهم الا تلك الصبية ، التي كبرت وعبرت ازقة الحي دون صوت الا عيون ناعسة واسعة جميلة وابتسامة تشبه ابتسامة الممثلات الايطاليات من ريفها الجنوبي المعجون بسمرة البحر المتوسط.
ظلت صبية الحي بمريولها وطلتها عند الباب وانتقالاتها بين الجيران والخباز والحاجات الصغيرة للبيت ، والتي تمارسها كل فتاة كخادمة طوعية وابنة مطيعة للام وحنتها المعتادة في روتين بيوتنا بالامس واليوم. عشت يوما جميلا تعلمت منه درسا في عمر متقدم اذ لم اتصور ان هناك معادن من الناس ممتلئة طيبة انسانية رائعة، شخصيات بسيطة تقرأ بصمت وتعيش الحنين بمتعة الصمت، وتضحي وتعمل بصمت وتحب وتحزن بصمت، وعندما تحتاجهم سيكونون هم اول الناس حزنا وتعاطفا وجدانيا معك. الحكايات لم تتغير من بيتنا في الامس الغريب ولا صبايا الحي الامهات والجدات، ولا تلك الاغاني التي تسقط في المساء، ولا زعيق امرأة ازاء طفلها المدلل او ابنها العاق، فلكل بيت حكاياته ولكل حكاية اسرارها ومسارها وتعرجاتها الشبيهة بتعرجات الزقاق الضيق وباب اتكأ على زجاجة خضراء جاءت من مزبلة قريبة في شماله يوازيها حوطة في جنوبه اتحفتنا ليلا ونهارا بنهيق اصدقائنا «الحمير» في تلك الحوطة، التي ترعرعت بجوارها شجرة جميلة من الحياة وصبية عاشت مع حلمها كل يوم، في بيت الذاكرة، الذي يخضّر في داخلنا بمحبة لا تقاس ولا تنتهي على مدى العمر.

صحيفة الايام
13 يونيو 2010