المنشور

الإصلاحيون الإيرانيون (1)

تداخلتْ التياراتُ السياسيةُ والاجتماعية لدرجةٍ شديدة في إيران، وقد رفعتْ تسمياتٍ ومصطلحات ايديولوجية لا تعكس حقيقتها الطبقية، وأدى ذلك إلى صعوباتٍ في فهم هذا الصراعِ الاجتماعي السياسي المركب ك: المتشددون والإصلاحيون، المحافظون والثوريون، وخط الإمام، وغير هذا من مصطلحات للطبقة المسيطرة في إيران المتصارعة.إن إيران وهي تمرُ ككلِ دولِ الشرق في التحولِ والتنمية والاستقلال مضتْ تسيرُ بصعوبةٍ من الإقطاع للرأسمالية، ولعبَ جهازُ الدولةِ دورَ القيادة، وتجسدَ ذلك عبر توسعِ الملكيةِ العامة، التي تظل خاصةً للطبقةِ المسيطرة، فهي اسمياً تعودُ للشعب، ثم قامَ المذهبُ الديني بتجاوزِ الدولةِ ولعبَ دورها، فوقعَ الكائنان المادي السياسي والايديولوجي في صراعٍ حادٍ متشابك، وهو ما كان يتجنبُ الوقوعَ فيه الآياتُ العظمى.المذهب لدى آيات الله العظمى يغدو محافظاً معبراً عن هيمنةِ الإقطاعِ بشكلٍ واسعٍ، لكن تجري فيه عمليات تغيير موائمة مع العصر ببطءٍ شديد، ويغدو كما قلنا أقرب إلى الواقعية السياسية والعلمانية، لكن الثورة أبعدتْ الآيات العظمى، ونزلتْ البرجوازيةُ الصغيرةُ تقودُ الحياةَ الإيرانيةَ بشكلٍ عاصف.إن دخولَ هذه الطبقة للصراعِ الاجتماعي لا يعني القطع المطلق مع وعي الآياتِ العظمى، خاصةً في مجالاتِ الرؤيةِ الاجتماعية لأحوالِ الأسرةِ وقيمِ وتاريخِ المذهب وللمبنى الفكري عامة، لكنها تقتحمُ الميدانَ السياسي وتطرحُ مقولاتٍ ايديولوجيةً جديدة، بعضُها ينبعُ من المذهب وبعضُها لا ينبع.ومع سيطرة هذه الطبقة على جهاز الدولة، تكون قد جمعتْ بُنيتي الإقطاعِ والرأسماليةِ معاً، لكنها ليستْ رأسماليةً على الطراز الحر الغربي، بل على الطرازِ الشرقي الحكومي الاستبدادي، فهي تقومُ بالسيطرةِ على حراكِ الناس الاجتماعي وأحوالهم الشخصية والعقلية، فتغدو استبداداً إقطاعياً، وهي في ذات الوقت تبني اقتصاداً رأسمالياً حكومياً وهذا يوجد ليبرالية بحدودِها الدنيا، شركات عامة وخاصة وعلاقات بضائعية ورأسمالية تتغلغلُ في الحياة المُهيمن عليها من قبل الدينِ المحافظ المؤدلجِ لخدمةِ الطبقةِ المسيطرة، فهذا الحراكُ المزودجُ المتناقضُ بين الإقطاع والرأسمالية، يوفر مجموعةً كبيرةً من الصراعات داخل الطبقة الحاكمة وداخل النظام.هنا يحدث صراعٌ كبيرٌ على الفائض الاقتصادي بدرجةٍ أساسية، فنرى موجةَ رفسنجاني بفترتي رئاستهِ تنتجُ الفئات الأولى الكبيرة المستفيدة، وتنحي الفئات البرجوازية الصغيرة التي شاركتْ في إنتاجِ فكرِ الثورة وعملها على الأرض وقدمتْ التضحيات وتصعدُ القوى الأكثر غنى والأشد قوة.و(خطُ الإمامِ) يعني خط هذه البرجوازية الصغيرة المتذبذبةِ بين الإقطاعِ والرأسمالية، بين القراءةِ الدينية المحافظة وبين الحداثةِ، بين الاستبداد والحرية، بين هيمنةِ القطاع العام الكلي وبين حرية القطاع الخاص، بين القومية المتعصبة وبين الأممية الإسلامية والإنسانية، بين قمع الشعب وإطلاق سراحه، بين اليمين واليسار، بين هيمنة العسكر وانتصار الديمقراطية.إن الصراعَ على الفائضِ الاقتصادي يتجسدُ في الأولوياتِ المحددةِ للقطاع العام. ففي فترةٍ تكونُ الأولويةُ لتنميةِ القطاعِ العام الاقتصادي الكبير والقطاع العسكري، وهي الفترةُ التي صعدَ فيها ما يُسمى (اليسار)، لكنها الفترة التي صعدت فيها الفئاتُ البرجوازيةُ الكبيرة داخل النظام ويمثلها رفسنجاني، وجاءتْ فترةٌ أخرى يمثلها خاتمي، وهي عودةِ لتيارِ البرجوازية الصغيرة المتشكل من اليساريين والليبراليين الدينيين وهم الجماعات التي نُحيت في فترة رفسنجاني والتي دخلت السنوات الأولى للثورة بشكلٍ حماسي حادٍ وشاركتْ في دعائمِ النظام من شرطةٍ سرية وبناء دعائي ديني مطلق ثم اكتوتْ بما أسستهُ حين تطور وعيها نحو الليبرالية.هناك تداخلٌ بين هذه الفئاتِ الوسطى والصغيرة من الطبقةِ الحاكمة، فموجةُ النمو الاقتصادي الرأسمالي الحكومي وسعت العلاقات التجاريةَ والثقافية بالغرب، وحصل تطورٌ كبيرٌ للعلاقاتِ البضاعية والمالية الرأسمالية، مما يعبرُ عن توجيهِ جزءٍ مهمٍ من الفوائض الاقتصادية نحو البناء السلمي.وهذا التصاعدُ للعلاقاتِ الرأسماليةِ من جهةٍ أخرى يولدُ مشكلاتٍ كبيرةً للجماهير الشعبية عبر تصاعدِ نفوذ الأغنياء والمؤسسات الاستغلالية المختلفة، مما يجعل هذه الجماهير تبحث عن(الاشتراكيين) واليسار الديني وهذا ما يستغلهُ اليمينُ المتطرف!بين اليمينِ الكبيرِ عند رفسنجاني واليمينِ الصغير عند خاتمي نمتْ العلاقاتُ الرأسماليةُ التحديثية، وراحتْ تضربُ القيدَ الإقطاعي من دون نجاحٍ في إزالتهِ، لكونها قامتْ على أسسهِ الفكرية والسياسية.إن العلاقات الرأسمالية مربوطةٌ ومحكومةٌ بالهيمنةِ السياسية الايديولوجية الإقطاعية، فالمضمون الاجتماعي المتصاعد يصطدمُ بالشكلِ المعرقل.إن الشكلَ المعرقل يتجسد في الدستور، وهيمنة المرشد، وفي الايديولوجيا البرجوازية الصغيرة المتناقضة، وفي البرلمانية المنسوجة على قامةِ الطبقة الحاكمة، وفي شعارِ ولاية الفقيه، والعداء للغربِ الديمقراطي والاشتراكية.وفي الجوهر يعبرُ ذلك عن سيطرةِ رجالِ دينٍ محافظين خائفين من الحداثةِ يتمسكون بالماضي الإقطاعي حيث الذوبان الكلي للجمهور في هيمنة السلطة، ولكن الحداثةَ تفككُ هذه الهيمنةَ وتحررُ العمالَ والنساءَ والعقولَ من النصوصية الحرفية، من دون أن تخرج عن الحضور التاريخي للمذهب بطبيعة الحال لكن قصر النظر الايديولوجي يتوهم ذلك، فلا يستطيع رجلُ الدين التقليدي أن يتطور فكرياً وفقهياً، من دون أن يتركَ السلطة السياسية فخروجهُ منها يمثل تطوره لكنه لا يعي ذلك ويقاومهُ لأن القضيةَ غدت قضية طبقة لا قضية شرائح اجتماعية، ومن هنا يصارع الليبراليين الذين هم معه في السلطة لأنهم يزحزحونه منها فيطردهم ثم يقمعهم.

 
صحيفة اخبار الخليج
10 يونيو 2010