المنشور

موعد اقتراب الكذب

الكذب عملة سياسية مثلها كعملة تجارية واجتماعية وأخلاقية يمارسها الأفراد والمجموعات والمؤسسات، من اجل تمرير كل أشكال وغايات مستهدفة تحقق أهدافا محددة، اكذب واكذب حتى تصدق كذبك، لهذا قررنا اختيار عنوان يبدو للبعض استفزازيا خاصة لمن يهمهم الأمر، انطلاقا من مقولة شهيرة « أيلي على رأسه بطحه يتحسسها « مع إنني لست وراء هذا العنوان، وإنما شخصية شعبية تجلس على مقعد مهمل في أزقة الأحياء الشعبية، فحين سلمت عليه « قائلا ها فلان بارز حق الانتخابات « فرد بهدوء « ما دام أنا ما صّوت مرتين ما يفرق الثالثة « بعدها ردد :» جرب وقت الجذب « لهذا كان عليّ أن أصيغها بلغة متشابهة، وبعد حديث ودي سريع سألني « أنت ما ودك ترشح « ضحكت ورددت عليه دون إطالة « بأن الصحة ما تسمح وظروفي لا تتيح لي العودة لنفس التجربة « ولم يكن الوقت مناسبا أكثر لشرح تفاصيل عدة دفعتنا للمساهمة الانتخابية في الدورة الأولى . طوال هذه السنوات كان المشهد الانتخابي والأداء النيابي والبرامج الانتخابية والحملات التي كثرت بها الوعود والأحلام وتم بيع بضائع كان أصحابها يدركون انهم لن ينجزوا ولا شبر واحد من مساحة الأرض في معركة ميزانها خاسر من الجولة الأولى. من خاضوا في كل التجارب الانتخابية، ومن أخفقوا أو نجحوا في نيل تلك المقاعد، لا تمنعنا عن قراءة تلك الأيام والسنوات الساخنة، بل وتأمل بعض البرامج والحملات الانتخابية وتلك الصور والملصقات بعباراتها « العظيمة والساخرة ! فعلى اقل تقدير وابسطه ليس التجاوزات القانونية الفادحة ابتداء من توظيف المساجد ومحلات دينية عدة كالمآتم مكانا لترويج مشروع ذاتي أو سياسي لمرشح ما، مرورا بتلك الهدايا النقدية والعينية وانتهاءً بوعود كثيرة لحل مشاكل أناس بسطاء حول السكن والوظيفة بل وحتى بإنقاذه من ورطة مالية وحلم زواج معلق لابن راتبه ينتهي في منتصف الشهر.
الحكايات اليومية أثناء الحملات الانتخابية حول ممارسات معسولة بالوعود تبقى طوال الدورة الانتخابية، حيث ترتفع أصوات النواب « والطامة إن ظاهرة الكذب هي الأكثر تسيدا فيما بدا القليل منهم من احترم وعوده الانتخابية وقال لناخبيه اسمحوا لي لقد فشلت في تحقيق ولو جزء من مطالباكم التي على أساسها رشحت نفسي وعلى أساسها روجت برنامجي ووعدتكم بالكثير، غير ان النواب بعضهم كان يدرك مسبقا انه يمارس لعبة برلمانية أساسها الكذب السياسي والموقف السياسي الكاذب، بين سلوكين متناقضين المعلن جميل وبراق والخفي هو الحقيقة ترتيب أوضاع مستترة ولعب ادوار واضحة ومطلوبة. بعضهم كذب واستغل مستوى وعي الناخبين فهو حينما يقف يصبح « شمشون « تحت قبة البرلمان مدعيا بأنه سيسقط المعبد على رأس من فيه، فإنما ذلك لم يكن إلا مسرحية إعلامية وسياسية بطولتها مزيفة بامتياز، ودون شك عدسات الإعلام لديها لعبتها « فهي ترفع من تشاء وتذل من تشاء وتسقط من تشاء « حسب طبيعة اللعبة، ليس البرلمانية وحدها وإنما حسب اللعبة السياسية الواسعة جدا . ولكي يبتلع الناخب الطيب الموس السياسي، فان أجمل العبارات لا بد وان تكون « كاذبة « وأحسن الوعود وأوسعها حلما تدغدغ الناخب لا بد وان تكون وعود « كاذبة « وحين يمل الانتظار الناخب المسكين حالا ومالا وعيالا ووبالا، فان ابسط رد يمتلكه هو ترديد عبارة هؤلاء كذبوا علينا، لقد وعدونا بأشياء كثيرة ولكننا لم نرَ منهم إلا ذر الرماد في العيون .
ما حمله النائب المحترم داخل قبة البرلمان اغلبه كان فاشلا من الخطوة الأولى، ولأنه عاجز عن تحقيق المشاريع الكبرى وتشريع ما هو ضروري، فان من الأفضل التعلق بحكاية فاشلة هي الاقتراحات برغبة !! وتقديم طلبات خدماتية كانت الحكومة بالأساس متجهة لتحقيقها دون الحاجة لنصائح نائب عاجز، ولكي تمنح الحكومة امتيازا لنائب على حساب نائب أخر، فإنها لا بد وان ترفع من رصيد أحبابها وتضايق من يضايقها وتهمل من لا يصب الماء الزلال في طاحونتها، حتى كدنا أحيانا لا نفرق بين وظيفة مجلس الشورى عن النيابي ولا دور موظف البلديات السابق المعين عن الجديد المنتخب، بل واقتحم النائب السياسي على وظيفة البلدي الخدماتي، لكون النائب صار يدرك ان عمله الفعلي مشلول وغير صالح للتمديد وفاقد للصلاحية الحياتية والنيابية ! فيما بات العمل الخدماتي للبلديات همه اليومي، فلعله بذلك يمسح ذنوب حملته الانتخابية الكاذبة .
يا الله لو اعددنا أرشيفا طوال ثماني سنوات، من قصص الوعود والخرائط الإسكانية والأوراق والأحلام التي قيلت للناخبين لصار بإمكاننا تأليف ألف ليلة وليلة بحرينية في زمن الانتخابات، التي روج لها أصحابها بالمن والسلوى، غير اننا لم نجد غير أضغاث أحلام وهواء فارغ في بالون انفجر قبل أن يطير.
بين الوعود المعسولة والكذب السياسي علاقة دم وقرابة معروفة في جميع البلدان، وبين تلميع الحذاء في شارع باريسي ومشهد برج إيفل علاقة قديمة بالثورة الفرنسية، حيث تبخرت كل الأفكار النبيلة التي نادت بها الثورة البرجوازية عن العدالة والإنسانية والإخوة، مما جعل ماسح الأحذية السنغالي يسخر كل يوم مع زبائنه قائلا « أحلامنا ماتت عند هذا المقهى وعيوننا تنظر لذلك الحديد العظيم، ولكننا ما زلنا نفتش عن فرنسا في الدروس الفرنسية في المدارس السنغالية، عن تلك المبادئ التي جاءت بها الثورة . أفكار كبيرة تم توظيفها في اتجاه الكذب والدم، قيم عدة تم تدجينها من اجل الكذب، وأحلام عظيمة تبخرت عند مرافئ الكذب ، حتى كدنا نلمس الاختلاط بين الأوراق الصادقة والكاذبة. دون شك هناك قلة من النواب عباءتهم ليست كلها أوراق من الكذب، غير أنهم عندما تقتضي الضرورة السياسية فأنهم سيكذبون بحجة «الأمر يستدعي ذلك حاليا» أو لم يحن الوقت لقول الحقيقة وعلينا إخفاء الأمور « ولكنها العملية تنكشف في نهاية المطاف، حيث من بدأ صادقا في برنامجه الانتخابي صار كاذبا في ممارساته النيابية ومجالسه، ولا عجب أن تعود عجلة الكذب الانتخابية في حملة الدورة الثالثة وموعد اقتراب الانتخابات، وسنتابع بعيون وقلوب مرتعشة تلك الجمل اللطيفة « سأضرب بيد من حديد على الفساد « وبما أنهم – ودون استثناء – دبجوا عبارة مكافحة الفساد – اكتشفوا أنهم وقعوا في شرك الفساد بوعي أو دون وعي.
 
صحيفة الايام
8 يونيو 2010